مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ

يقول أمير المؤمنين (ع) في خُطبةٍ له عن تمايز الحق والباطل، أن من وثق بماء لم يظمأ، ويعني بذلك أن الإنسان الذي يكون مسافرًا مثلًا، ويعرف أنه عنده ماء ويعرف مواضعه جيدًا، هذا الشخص لا يهلكه الظمأ ولا يكاد يشعر به، وإن لاح له سراب فإنه لا يتبعه لأن علمه يحصنه من التيه. بخلاف الشخص الذي يسير على غير هُدى، فإنه لأقل بادرة من العطش يشعر أنه يكاد يموت، ويظل يتخيل هلاكه دون أن يرتوي، ويتبع كل سراب لأنه لا يدري أحقيقة هو أم وهم.

ما يقصده الإمام هو أن الشخص الذي ليست لديه مرجعية، فهو كهذا الحيران التائه، يظل ظمآنًا في الفِتَن، لا يعرف كيف يميز بين السراب وغيره، فيتبع كل إشاعة وكل تدليس، يهلع إن قالوا له الهزيمة قريبة، ويفرح إن قالوا له النصر أيضًا قريب، مشتت هكذا بين الفرح واليأس. غارق في "التحليلات" التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

أما الإنسان الذي له مرجعية موثوقة يستمسك بها ويرد الأمر إليها (ونعني أهل الميدان قادة وجُنْدا)، الإنسان الذي تربّى (أو ربّى وثقّف نفسه) على نهج هذه المرجعية، من آمن إيمانًا يقينيًا بأنهم أهل الحق، وأن الله لن يخذلهم ولن يخزيهم، هؤلاء أجدر بأن يثبتوا عند الشدائد، وألا تؤثر في عزائمهم المصائب. وهم أيضًا من لم يزيدهم طول الحرب سأمًا من القيام بدورهم في الدعم والتبيين. هؤلاء هم أشرف الناس وأطهر الناس وأكرم الناس كما وصفهم السيد الأمين.

أما "حلفاء الصدفة"، فهؤلاء وإن كانوا ينصرون في بعض المواقف، فإن هذه النصرة مبتورة لا يُعوّل عليها كثيرًا، والخذلان منهم سريع لأن أساس تأييدهم مرحليّ نسبيّ يفتقر إلى يقين البيئة الحاضنة والداعمين الحقيقيين. ولذلك فإن نفعهم الآن ربما يعود ضررًا غدًا.

وواضح أن ما دون هؤلاء، سواء كانوا متفرجين من وراء الشاشات، أو مغيبين يعيشون حياتهم "بالطول والعرض" كما يُقال وكأن شيئًا لا يحدث حولهم، فهؤلاء غثاء لا يُرجى منهم خير، وآراؤهم لا تثبت أبدًا، كلما قيل لهم شيء صدقوا منه ما يوافق أهواءهم ولا يعطل حياتهم، فهم كما قال الإمام: "وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ، لم يستضيئوا بنورِ العلمِ، ولم يَلْجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ".

تاريخ النشر 25-10-2024