حديث الغدير
في يوم الثامن عشر من ذي الحجة وبعد عودة النبي ﷺ من حجة الوداع، وصل إلى مكان يسمى "غدير خم" قرب الجحفة جنوب المدينة. هناك أمر الحجاج الذين معه بالتوقف، وعددهم حوالي عشرة آلاف من الصحابة، وفيهم صفوتهم من المهاجرين والأنصار أصحاب القرار في المسلمين. ثم أمر بانتظار المتأخرين من الناس ورد من فات عن هذا الموضع حتى عاد الفائت ووصل المتأخر ثم خطب مودعاً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد ألا يا أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي عز وجل فأجيب، وإني تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله عز وجل فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به"، فحث على كتاب الله ورغب فيه. ثم قال: "وأهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي." ثم قال: "ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟" قالوا: "بلى!" فرفع يد علي بن أبي طالب حتى يراها الجميع وقال: "ألا فإن الله مولاي وأنا مولى كل مؤمن، ومن كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار." فلقيه عمر بعد ذلك فقال: "هنيئا يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة". ويروى أن الرسول ﷺ أمر الصحابة جميعًا بتهنئة علي.
هذا لب الرواية المعروفة بحديث الغدير، أي أن النبي ﷺ قبل وفاته بشهرين أوصى المسلمين بالتمسك بكتاب الله وأهل بيته ثم خصص عليًّا (رأس أهل البيت بعده) بوصية خاصة بأنه أولى بالمؤمنين.
ملخص حديث الغدير منقول من مقالة للشيخ حسن فرحان المالكي
حديث متواتر
حديث الغدير حديث لا أحد من المسلمين يناقش في صحته وفي ثبوته. فهو حديث متواتر أعلى درجات التواتر (والحديث المتواتر هو الذي رواه عدد كثير في كل طبقة، أي يرويه تابعون كثر عن صحابيين كثر مثلا، وعددها قليل مقارنة بألوف الأحاديث غير المتواترة).
الاختلاف إذن ليس في أن النبي ﷺ قاله، فالحديث في أقوى درجات الصحة. الخلاف يقع في تفسير هذا الحديث ودلالته. فالشيعة يعتقدون أن هذا الحديث من أهم الأحاديث الدالة على تعيين الإمام علي خليفة لرسول الله ﷺ بعد وفاته، أما أهل السنة والجماعة فلا يعتقدون أن هذا الحديث يؤكد على أحقية علي بالخلافة، وإنما يرون أن الأحقية بالخلافة حسب الترتيب التاريخي الفعلي: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.
الحديث عند السنة
المناسبة: لم يقصد الرسول ﷺ من خطبة الغدير بقوله "من كنت مولاه فعلي مولاه" ولاية الخلافة، بل ولاية النصرة والمحبة وذلك أن بعض الصحابة اختلفوا مع علي في تقسيم غنائم اليمن وكان الحق مع علي فبيّن النبي ﷺ فضله.
معنى "مولاه": المولى في الحديث لا تعني الحاكم والخليفة. فللمولى معان كثيرة منها: الرب والمالك والسيد والمنعم والمعتق والناصر والمحب والتابع والجار وابن العم والحليف والعقيد والصهر والعبد والمعتق والمنعم عليه. والمقصود بالموالاة في الحديث هي المودة والمحبة والنصرة والمؤازرة، وهي ضد المعاداة.
الزمان والمكان: النبي ﷺ لو كان يريد أن يوصي بالخلافة لعلي لأعلن ذلك في يوم عرفة أو في يوم النحر والمسلمون حاضرون مجتمعون.
شورى: قال تعالى: (وشاورهم في الأمر) و(أمرهم شورى بينهم) فأمر الخلافة متروك للأمة، فهي تختار الإمام والخليفة بالشورى والانتخاب.
ما على الرسول إلا البلاغ المبين: لو كانت خلافة وإمامة علي رضي الله عنه بهذه الأهمية لذكرت في القرآن الكريم ولم يكن الرسول ﷺ ليترك الأمر مبهمًا. لماذا نجد بيعة الرضوان في القرآن الكريم ولا نجد بيعة الغدير؟
تفسير آية التبليغ: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} {بلِّغ ما أنزل إليك من ربك} أَيْ: لا تراقبنَّ أحداً، ولا تتركنَّ شيئاً ممَّا أُنزل إليك تخوُّفاً مِنْ أَنْ ينالك مكروهٌ. بلِّغ الجميع مجاهراً به { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } إنْ كتمت آية ممَّا أنزلتُ إليك لم تبلِّغ رسالتي. يعني: إنَّه إنْ ترك بلاغ البعض كان كمَنْ لم يُبلِّغ {والله يعصمك من الناس} أن ينالوك بسوء. قال المفسرون: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يشفق على نفسه غائلة اليهود والكفَّار، وكان لا يُجاهرهم بعيب دينهم وسبِّ آلهتهم، فأنزل الله تعالى: {يا أيها الرسول بلِّغ ما أنزل إليك من ربك } فقال: يا ربِّ، كيف أصنع وأنا واحدٌ أخاف أن يجتمعوا عليَّ؟ فأنزل الله تعالى: { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إنَّ الله لا يهدي القوم الكافرين} لا يرشد مَنْ كذَّبك. (تفسير الوجيز للواحدي)
تفسير آية الإكمال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. {اليوم} يعني: يوم عرفة {أكملتُ لكم دينكم} أحكام دينكم، فلم ينزل بعد هذه الآية حلالٌ ولا حرامٌ {وأتممت عليكم نعمتي } يعني: بدخول مكَّة آمنين كما وعدتكم. آية الإكمال نزلت يوم الجمعة بعرفة وحديث الغدير كان في الثامن عشر من ذي الحجة، أي بعد نزول آية الإكمال. فكيف تكون إمامة علي رضي الله عنه من أصول الدين ولم يبلِّغها النبي ﷺ إلا بعد إكمال الدين وإتمام النعمة بتسعة أيام؟
الحديث عند الشيعة
قيادة الأمة: لا يمكن للدين الإسلامي أن يهمل مسألة هامة بمستوى قيادة الأمة بعد الرسول ﷺ ويتركها بدون تخطيط، وخاصة في مجتمع حديث عهد بالإسلام، يواجه فتنًا وتحديات خارجية وداخلية جمة. الاجتماع الطارئ والحاشد في يوم الغدير وأسلوب الخطبة وما تلاها من تهنئة كلها عناصر تدل على مراسم بيعة وتعيين المسار القيادي للأمة. لا يعقل أن يوقف النبي ﷺ هذه الألوف المؤلفة في هجير الصحراء ليقول هذا علي وأنا أحبه فأحبوه.
المناسبة: حادثة الغدير لا علاقة لها بالخلاف الذي حصل حول اقتسام غنائم اليمن لأن الخلاف كان قد تم معالجته قبل الحج.
آية الإبلاغ: الرسول ﷺ أدلى بحديث الغدير بأمر من الله تعالى وذلك بعد نزول آية التبليغ وهي (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). الآية تحث الرسول ﷺ على تنصيب الإمام علي خليفةً له وإمامًا للناس. عدم إبلاغ النبي ﷺ الناس بولاية علي يُعدّ مساويا لعدم تبليغ الرسالة الإلهية، وهذا مما يُبين أهمية مسألة الإمامة. ويفهم هذا المعنى من قول الله تعالى (وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)1
آية الإكمال: بعد أن أبلغ النبي ولاية علي نزلت الآية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). الآية دليل على أن اكتمال أهداف الرسالة وضمان عدم وقوع انحراف أو فراغ تشريعي أو قيادي بعد الرسول ﷺ، إنما يتحقق في حالة استمرارية القيادة المنصوبة والمنصوص عليها من قبل الله.1
معارضة: لقد حاول النبي ﷺ إعلان إمامة علي في عرفات، ولكن الظروف لم تكن مناسبة. فقد كان هناك لغطًا كبيرًا أثناء الخطبة مما دل على وجود معارضة شديدة أثارت قلق الرسول ﷺ. منشأ هذا القلق أمران: اتّهامه بأنه يريد إبقاء السلطة في أهله ومظنة خطر القتل على الإمام علي. فقرر النبي إعلان الأمر لحجّاج المدينة بما أنّ أهل المدينة هم المهاجرون والأنصار وهم أهل الحلّ والعقد وهم صدر الإسلام وهم الذين عاشوا مع النبي حديث الدار وحديث المنزلة وحديث الولاية وحديث المؤاخاة (أحاديث في فضل الإمام علي قيلت في مناسبات عِدّة).2
القرينة: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» قرينة تدل على أن «المولى» في حديث الغدير معناه «الأولى بالتصرف» أو «الأولى بالأمر» كما جاء في الآية الكريمة (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) أيّ إذا حكم عليهم الرسول بشيء نفذ حكمه ووجب طاعته عليهم.
آية الولاية: من الآيات القرآنية التي تشير إلى ولاية علي: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) يؤكد أغلب المفسرين على نزول هذه الآية في علي بعد تصدّقه بخاتمه وهو راكع.
حديث الغدير نص شرعي: الشورى لا تكون في الأمور الدينية التي ثبت صحتها في القرآن والسنة؛ إذ لا يوجد شورى في النصوص الشرعيّة. قال سبحانه }وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى{ فما ثبت صدوره من الرسول ﷺ هو ككلام الله عز وجل في الحجية ولزوم الأخذ به. ولو كان رسول الله ﷺ طرح مبدأ الشورى في موضوع الخلافة لانعكس على أصحابه، بينما نجد أن أصحابه لم يلتزموا بمبدأ الشورى، وساروا على مبدأ التعيين، ، الخليفة الأول عين الخليفة الثاني بدون شورى، والخليفة الثاني عينها في ستة. وبعد مقتل عثمان، أصر جماهير الأمة على علي لتولي الخلافة، ومن ثم توارثها الأمويون والعباسيون بالقوة والغلبة، هذه الطرق المختلفة في معالجة موضوع الخلافة، تدل على أن مبدأ الشورى لا يرتبط بقضايا الدين وخلافة الأمة وقيادتها.2
المصادر: 1- الشيخ صالح الكرباسي، 2- العلامة السيد منير الخباز
خاتمة
هذا التنوع في فهم نفس الحديث والروايات ثم فهم التاريخ كله على ضوء ذلك يدعو الإنسان للتواضع.
السنة يرون أن الولاية مقررة للإمام علي، ولكن بمعنى النصرة، والخلافة شورى بين عموم المسلمين. أما الشيعة فيرون أن الولاية هي عهد نبوي للإمام بقيادة المسلمين من بعده. ولكل منهما شواهد تؤيده.
هناك بالطبع أسباب أخرى يضيق المقام عن حصرها لأنها لا تزال محل جدال بعد هذه القرون الطوال. ولكن رغم ذلك، ينبغي أن تُناقش هذه القضايا بهدوء، ودون أن يمنعنا الخلاف من التفاهم. فالإمام علي نفسه، وهو الذي صرح في خطبته المعروفة بالشقشقية أنه يرى نفسه أحق بالخلافة، لم يجعل ذلك سببًا للقطيعة، وإنما ظل مُعينًا لأبي بكر ثم عمر ثم عثمان، حتى كان عمر يقول "لولا علي لهلك عمر" و "أعوذ بالله من معضلة ولا أبو حسن لها". وفي عهد عثمان كان الإمام هو الوسيط بينه وبين المعترضين عليه.
والإمام أيضًا هو القائل: "لأُسْلمن ما سَلِمتْ أمورُ المسلمين ولم يكُن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصَّةً"، أي أن العدل وسلامة حال الأمة هو الأولى، أيًا كان شخص القائد.
وفي الختام نقول كما قال الشيخ حسن الصفار "الحديث عن الخلافة لا ينبغي أن يكون ضمن مسار إثارة الخلافات والضغائن، ولا أن يتم بطريقة متشنجة منفعلة، تشغل المسلمين عن قضايا واقعهم المعاصر، وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والوئام. ولكن من الضروري جداً أن يتعرف المسلمون إلى بعضهم البعض، وأن تتضح وجهة نظر كل طرف للآخر، بشكل موضوعي هادئ... لأن المعرفة والوضوح، توفر أجواء الفهم المتبادل، وتقطع الطريق على المغرضين، الذين يشوهون صورة كل جهة أمام الأخرى، ليصطادوا في الماء العكر".