في أوقاتنا هذه التي نستبطئ فيها النصر، وربما ننكر أن يحدث لعدم تكافؤ موازين القوى (فالخصم إن لم يكن الأفجر والأفظع في التاريخ، فهو بلا شك الأكثر تسليحًا وعتادًا والأقدر على إحداث الدمار)، علينا أن نعود إلى تدبر السنن الكونية التي أكد الله تعالى عليها ويشهد عليها التاريخ.
القرآن الكريم يقرن بين القلة العددية وبين الحق، فأهل الباطل كُثُر وطالما كانوا وسيكونوا، والناس في عمومهم لا ينكرون الحق فقط وإنما يكرهونه "أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ".
وإن كان هذا هو الحال، فكيف للحق أن ينتصر ويعلو على الباطل؟
الإجابة القرآنية ذات شقين:
الشق الأول أن النصر يأتي من الله وحده "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ"، وأن الهزيمة لا تأتي إلا بإذن الله، وما تغني الشجاعة ولا العتاد ولا الكثرة، ففي بدر انتصر المسلمون وهم ثلث عدد المشركين وليس معهم إلا فرسان، وفي المقابل انهزموا في غزوة حنين وهم أكثر من عشرة آلاف، "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا"، وقد كانت وصية الإمام علي (ع) لابنه محمد قبل إحدى معاركه "واعلم أن النصر من عند الله سبحانه".
الشق الثاني أن المؤمن مكلف بالإعداد والصبر والأخذ بالأسباب، فالأمر الإلهي بالإعداد لا يقول أعدوا حتى تتفوقوا على العدو، ولكن أعدوا قدر جهدكم "وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ"، وإن صار الأمر إلى القتال، فالقلة تغلب الكثرة "فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ"، ثم يختم الله هذه الآية بتأكيد أنه سبحانه وتعالى يقف في صف القلة المصابرة "ۗوَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ".
وفي ضوء هذه الإجابة، نستطيع أن نفهم وصية النبي لابن عباس وهو يعلمه: "واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا"
ونفهم أيضًا سر ربط الله بين الحق والصبر في سورة العصر
"وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ"
فالحق قليل، ولا ينتصر إلا بيد الله، وهو يُظهر نصره على أيدي قلة قليلة يتواصَوْن بالحق في كل حين ويتواصون بالصبر حين البأس (وهذه من دلائل قدرته سبحانه، ولو كانت الأمور تجري بالموازين المادية وحدها لما صمدت غزة وأعجزت القوى العظمى وقد اجتمعت على هذه المدينة بالغة الصغر، وليأس أهل كل قضية عادلة في الأرض).