The psychological concept of prostration (Sujood)
المفهوم النفسي للسجود

السجود أمر إلهي له أبعاده ومفاهيمه، ورد في عدة مواضع في القرآن وقد يختلف من حيث الكيفية وتتعدد مقاصده وغاياته. إن الاستجابة لهذا الأمر الإلهي يشمل جميع عباده (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، مما يؤكد عظمة مكانة السجود وأهمية أثره واحتياجنا نحن الخلق له، لأن الأوامر الإلهية دومًا تتنزل لتحقيق غايتين: إما لتلافي مضرة ما، أو للارتقاء بالنفس البشرية، الأمر الذي يدفعنا للبحث عن الأبعاد الكامنة في الأمر بالسجود.

أحد هذه الأبعاد هو "البعد النفسي" المتمثل في قوله تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وفي هذا الموضع جاء السجود شكرًا للنعيم الذي سبقه، كما أنه من الواضح الدخول سُجّدًا يقصد به "حالة نفسية" إذ لا يمكن الانتقال المكاني من الخارج للداخل في حال السجدة، مما يبين أن حتى عملية الانتقال ذاتها قبل أن نشهدها ظاهريًا يلزمنا الانتقال داخليًا، ولاكتمال دائرة الانتقال يجب الدخول في حالة السجود النفسي المتمثلة في الخضوع لله والمشروط بتخلي العبد عن كل باطل من برمجات متوارثة، ومعتقدات مغلوطة، ومشاعر مختزنة، ولعل السر في الأمر بالدخول خاضعين هو إلزام النفس البشرية باجتناب وترك الإعجاب بالنفس والاستعلاء لحصول التسديد الإلهي وتلافي الوقوع في فعلة إبليس (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ).

تمسُّك إبليس بمعتقد أفضلية النار على الطين هو الكِبْر بعينه، وهو الذي منعه من الامتثال لله، بالتالي لم يدرك الحكمة الإلهية، بعكس الملائكة سجدوا طوعًا رغم أنهم حين أخبرهم الله لم يستوعبوا أفضلية هذا المخلوق الجديد. يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فبسجودهم رغم علمهم المحدود، أدركوا غاية الله التي منع إبليس نفسه من الوصول إليها.

وبالعودة للآية (وادخلوا الباب سجدًا)، نجِد أن هذا التركيب قد أتى مرتين، مرة بتقديم القول على السجود، ومرة بتقديم السجود على القول:
(وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّة)
(وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا)َ ‎
وهذا يدل أن الجزاء الموعود بالمغفرة (نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ) يتطلب اقتران القول باللسان والتوجه بالقلب. الغفران يعني تطهر العبد من ظلماته وإزالة الحجب عن قلبه فيعود لفطرته النقية كولادة جديدة له، فتزداد بصيرته ليرى الحق كما هو لا كما توارثه. إذًا فالسجود النفسي يشبه البدء من الصفر بعيدًا عن المكتسبات التي كانت تعوق حدوث الارتقاء، وحينئذ يمنحهم الله تعالى من النعيم الممتد (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِين).

تكمن أهمية بناء وعي السجود على المستوى الفردي في أنه سيؤدي إلى تحقيق قفزات نوعية في الإبداع والفهم والانطلاقة. أما على المستوى الجمعي، فهو من أكثر ما تحتاجه الأمة خصوصًا في ظل احتدام المعركة بين الحق والباطل، وما تتطلبه هذه المعركة من البصيرة النافذة لرؤية الحق والعمل به، مما يزيد من الوعي الجمعي والتمكين في مواجهة الفتن المفتعلة بأيدي العدو.

ولتترك الأمة الإسلامية عصبياتها القومية والطائفية والمذهبية، وتتجاوز أزماتها الحالية بدراسة التاريخ وفهم جذور صراعاته، يتوجب عليها أولاً نزع ثوب الكبر والاستعلاء ثم التجرد من المخاوف المغروسة والمعتقدات المضللة التي اتخذت كمسلمات يحرم التأكد من صحتها ومدى انتسابها لحقيقة الدين وغايته، وبهذا الوعي تصبح منطلقات أبناء الأمة نابعة من فكر حر وبصيرة، لا عن تبعية، لأننا اضطررنا العقول لتعمل وتخرج من حالة الخمول الفكري، مما سيعود بالنفع في اختصار الزمن وحقن الدماء لتحقيق الغايات المرجوة والرؤية السامية وبناء الحضارة الإسلامية الراقية فيعود لها التأثير الفاعل في تاريخ الإنسانية.

وعليه فإن طوفان السابع من أكتوبر نتج عنه تجريد عميق للأمة حيث سقطت الأقنعة وهدمت المعتقدات وحطمت الطواغيت الداخلية، فانكشفت البصيرة وتجلت الحقيقة وازداد البيان، وبالرغم من تعمد العدو منذ سنوات بجرمه أن يجرد الفلسطيني من حقه، والغزّي بالتحديد شهد ذلك على مستوى واسع، فكل محاولات الهدم النفسي سيتحول بإذن الله في قادم الأعوام لفرصة عظيمة للبناء والارتقاء مع ازدياد الوعي الجمعي.

- رهف عليان

مصادر خلال هذا البحث القرأني:
- د.أحمد عمارة @drahmedemara
حلقة [أنت المشروع]
- مكتب سماحة السيد مرتضى المهري/
شرح آية ٥٨ من سورة البقرة
- حسن ياسر عمر @hassanomar_99
مقالة بعنوان [تِلْكَ أُمَّةٌ قَد خَلَت]

تاريخ النشر 06-03-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة