اليوم (15 رمضان)، ذكرى ولادة الإمام الحسن المجتبى (ع)، سبط رسول الله (ص) وحبيبه وريحانته من الدنيا وأشبه الناس به، وسيد شباب أهل الجنة. وصفه من رآه بأنه عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك. المظلوم حيًا وميتًا، رضوان الله تعالى عليه.
إذا نظرنا إلى الإمام الحسن (ع) كممثل للجيل الثالث من أهل بيت النبوّة، لوجدنا أنه ثمرة الشجرة الطيبة التي أصلها رسول الله (ص)، وفرعها أمير المؤمنين (ع). كان يُلقّب بكريم أهل البيت، وحسبك برجلٍ يلقبونه "الكريم" وهو ابن الأكرمين، ومن بيت سادوا العرب بكرمهم قبل أن يصطفيهم الله بوحيه، وفي ثقافة تكاد تُقدّم السخاء والجود على كل الفضائل. كان من سمو النفس ورفعة الشأن، حتى كان أبوه (وهو من هو) يكرمه ويعظمه ويبجّله.
القرار الأكبر في حياته عليه السلام هو توقفه عن قتال أهل الشام وهم بغاة، وتنازله عن حقه حتى لامه شيعته وأغلظ له بعضهم في القول، فأجاب مستلهمًا سورة الكهف: "ألا ترى الخضر لما خرق السفينة وقتل الغلام، وأقام الجدار سخط موسى فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم وجه الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما تُركَ من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قُتل".
أدرك الإمام (ع) أن هناك خطرًا وجوديًا يهدد بقاء النواة التي تعرف الإسلام في صورته النقية الخالصة، وأنه قد يأتي جيل لم يسمع باسم أبيه إلا وهو يُسَب على المنابِر دون أن يدافع عنه أحد، جيل لا يفرّق بين مهاجر وطليق، وبين سابق وجاحد، جيل لم يلتقِ بأي شخصٍ تربى على الطريقة المحمدية. فآثر أن يهادِن ويتنازل عن حقه، كي يقطع مطامع الطامعين في استئصال هذه الشجرة الطيبة.
عندما حذّر الرسول (ع) أمته من الملك العضوض بالغيب، وأوضح لهم معالم طريقهم، وأوصاهم بالثقلين العاصمين من الضلال، انصرفوا عن هذا التحذير الغيبيّ، وأبوا إلا أن يجربوا بأنفسهم العاقبة الوخيمة عندما فضلوا من سامهم الخسف ومنعهم حقوقهم وألجم أفواههم. فكانوا كمن قال فيهم الله تعالى: " لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ". كانت أمامهم الشجرة الطيبة، من الجذور إلى الفروع إلى الثمار، فأبوا إلا أن يسقوا الشجرة الملعونة حتى أفسدت عليهم دينهم ودنياهم.
ولكن نتيجة لحكمة الإمام الحسن (ع)، أصبح لدى أجيال لا تحصى من أمّة محمد (ص) ما هو أبلغ من خبر الغيب الذي قد يشكك فيه المتشككون. أصبح لديهم تجربة تاريخية أليمة امتدّت لقرُون، وأفرزت نماذج من الطغيان والفساد وتفريغ الشرع الخاتم من مضمونه وتزييف الوعي ومحاربة الحق بالباطل. وأصبح لديهم في الوقت نفسه بديلًا مضيئًا لا يزال يأتيهم في كل جيل بالشرف والعزة والكرامة. لديهم نموذج الإمام علي (ع) الذي صفح عن مروان بن الحكم لما ظفر به يوم الجمل، ولديهم نموذج مروان الذي رفض بقوّة السلاح أن يُدفن الحسن (ع) بجوار جدّه. لديهم نموذج الحسن (ع) الذي تصدق بنصف ماله ثلاث مرات في سبيل الله، ولديهم نماذج لا تُحصى ممن تلاعبوا بثروات الأمة بأهوائهم. فكأن هذين النموذجين كقول الشاعر:
مَلكْنا فكان العَفْو منَّا سَجيَّةً
فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما
غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَح
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بيْنَنا
وكلُّ إِناءٍ بالذي فيهِ يَنْضَحُ
كان فعل الإمام المجتبى (ع) كفعل الخضر، وقد أتانا تأويله جيلًا تلو جيل.