those who put up a mosque to harm people
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا

مع إعادة انفجار الأوضاع على الجبهات في غزة ولبنان واليمن، لا يفوتنا أن نعيد التأكيد على خطورة الدور الذي تلعبه منابر الإعلام في التوطئة للعُدوان وتزييف وعي الجماهير، خاصة أن كثير من جمهورنا العربي لا ينتبه أصلًا إلى أن هذه القنوات والصحف لها أجندة خبيثة أو مغرضة، وإنما يظنّون أنّها مجرّد ناقل للحدث، بل وقد يمتدحون جرأتها في التغطية.

هذا الموقِف يذكّرنا مباشرة بحادثة مسجد الضّرار التي حدثت في أواخر العهد المدني، وسجّلها القُرآن في سورة التوبة. وهي باختصار أن جماعة من المنافقين بنوا مسجدًا بالقرب من مسجد قباء، وقالوا للنبي (ص) أنهم بنوه لصالح "ذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية"، أي من أجل خدمة الضعاف من المسلمين. ولكن الهدف الحقيقي كان أن يفرّقوا جماعة المسلمين بأن يصلّي بعضهم في مسجد قباء، والبعض الآخر في هذا المسجد الجديد، وأن يكون للمنافقين مقر له شرعية من رسول الله (ص) (إذا صلّى فيه) يجذبون به ضعيفي الوعي والإيمان، ثم يبثون من خلاله أكاذيبهم في الخفاء حتى تتسرّب إلى عقول الأمة وتسمم وعيَها دون أن يفطن لهم أحد.

هذه الواقعة فيها عدة دروس يمكننا أن نستخلصها في ظل ما نراه اليوم من وسائل إعلام النفاق.

الدرس الأول...

هو العلة في أن المنافقين في كل زمان لا يبنون مؤسسات لها شكل جديد، ولا يأتون ببرامج أو مبادرات تختلف عما يعهده المجتمع. وإنّما يختارون أكثر المؤسسات تأثيرًا، ثم يتنكّرون في شيء يشبهها ولكن بعد تفريغه من القِيَم التي تخدم المجتمع. يقول سيد قطب في تفسير الآية إن مشروع الضرار ليس بالضرورة أن يتخذ صورة المسجد، بل قد يتخذ صورة نشاط ظاهره للإسلام وباطنه سحق الإسلام أو تشويهه وتمويهه وتمييعه. قد يكون ذلك على شكل أحزاب أو تنظيمات أو كتب، وقد تكون على شكل صحف وقنوات تلفزيونية. في عهد رسول الله (ص) كان المسجد وسيلة صناعة الثقافة والوعي ويرعى المحتاجين ويعزز نسيج المجتمع، فبنى المنافقون شيئًا ظاهره أنه يؤدي نفس الدور، وباطنه الكفر الصريح (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).

وقد أوضح الإمام علي (ع) أن هذه هي الطبيعة المتأصّلة في الباطل، فيقول: "إنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق".

ومثل ذلك في دعاء الإمام زين العابدين (ع): "فلولا أن الشيطان صوّر لهم الباطل في مثال الحق ما ضلّ عن طريقك ضالّ". وهذا يصدّقه واقعنا الآن، إذ لا نرى مسجدًا ضرارًا، ولكن نرى حسابًا ضرارًا على مواقع التواصل، ومؤسسة إعلامية ضرارًا، وقناة تليفزيونية ضرارًا.

الدرس الثاني...

هو أن الله تعالى عندما أمر المسلمين بالتعامل مع هذا النوع من المؤسسات، فإنه ذهب مباشرة إلى ضرورة القضاء عليها تمامًا، فقال رسول الله لاثنين من أصحابه "انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله ، فاهدماه وحرقاه". فالأمر بـ"الانطلاق" يوحي بضرورة الحزم والسرعة في وأد هذا النوع من الفتنة، ثم المبالغة في تدميره بالهدم والإحراق معًا يوحيان بشدة الخطر وضرورة جعله عبرةً لمن يعتبر (فقد كان يكفي الهدم فقط). لماذا؟ لأن هذا المسجد الذي أساسه باطل في باطل هو أخطر على الأمة من مسجد كان أساسه صالحًا كالمسجد الحرام، ثم أفسده الناس بالشرك الصريح والأصنام. ليس هناك إمكانية لتطهير هذه الهياكل الفاسدة. فإن لم نستطع هدمها وحرقها اليوم، فأقل شيء نقوم به إحياءً لسنة النبي (ص) هي مقاطعتها مقاطعة تامّة، والتنبيه على شرورها وآثامها وخبث طويتها كلما أمكن ذلك.

الدرس الثالث...

والأخطر هو أن مؤسسات الضرار كثيرًا ما يكون ظهورها وانتشارها بمثابة تمهيد لغزو الأمة عسكريًا، هذا هو معنى قوله تعالى "وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ". إن من بنوا المسجد أيام رسول الله (ص) كانوا ينتظرون مجيء أبي عامر الفاسق بجيوش من الشام لتغزو المدينة، فكان المسجد كأنه قاعدة إعلامية تمهّد هذا الغزو وتثبط عن الرسول (ص) وتبني الأرضية الإعلامية والنفسية اللازمة لضمان الهزيمة. وفي العصر الحديث، كانت جريدة المقطم في مصر في بداية القرن العشرين مثالًا للجريدة الضرار التي كانت أداة في أيدي المستعمر الإنجليزي تعمل على تصفية القضية الوطنية وتشويه رموزها، مع أن شعارها المُعلن كان "خدمة الوطن". كيّ الوعي لا ينفصل أبدًا عن إخضاع الأمّة عسكريًا بالقوة والحصار، بل من الخطأ أن نعتبرهما مشروعين متضافرين، بل هما مشروع واحد، والمواجهة ضده هي معركة واحدة متعددة الساحات والجبهات.

تاريخ النشر 18-03-2025