من نعم الله سبحانه على الإنسان أن عرفه المنازل التي يستطيع الوصول إليها، والدرجات التي يمكنه الارتقاء إليها. ولولا ذلك لأصبح الإنسان يتثاقل إلى الأرض ويتقلب في شهواته متسافلا إلى دركات الهوى.
لم تكن المعرفة مقتصرة على إرشاد الكتب السماوية، بل أضاف إليها، ودائما، كان هناك من يطبقها ويجسدها فيغدو النموذج الحي التي تصنعه تلك الرسالات.
هكذا كانت الكتب السماوية والرسالات والأنبياء والمرسلون يخلقون من الأشخاص (معاجز) ومن الناس العاديين منازل ودرجات.
هؤلاء تجسيد للقيم في بشر فحلت مشكلتين:
١- توهم البعض مثالية القيم الإلهية وخياليتها وأنها لم تأت لكي تتحول إلى واقع، بل تبقى طموحا محلقا في سماء التجريد، لا تناله يد التجسيد والواقعية بحال. وبهذا تفرغ القيم والفضائل من محتوى الالتزام، لتبقى ضمن إطار الفكر والمثال. فتصبح على هذا الأساس غير قابلة للتطبيق وما دامت كذلك فلا يصح المطالبة بها على أساس أنها برامج ملزمة.
٢- هذه الشخصيات التي تجسدت القيم وقفت سدا أمام الاستسلام للواقع والانهيار أمام ضغوطه. وربما لو لم تكن هذه الشخصيات تجسد القيم والفضائل كان المؤمل أن يغدو الخاضعون للشهوات هم النماذج المعقولة القابلة للإتباع وأصحاب القيم يبقون في دائرة الشاذ النادر الذي لا يعبأ به، فتصبح حياتهم مثار تعجب وحياتهم محور تساؤل.
لكن وجود هذه الشخصيات والتي لم تكن قليلة ولله الحمد وضع سدا أمام الانهيار والاستجابة للضغوط النفسية والشخصية والاجتماعية والسياسية، فأصبح مجسدو القيم هم الأصل وسواهم الاستثناء الشاذ. حتى وإن كان أولئك قلة بالنسبة لكثرة هؤلاء وأصبح أهل الحق هم جماعة الأمة وإن قلوا.
بينما أشار القرآن من خلال عرضه لسير الأنبياء والأولياء لضرورة اتباعهم ودعى إلى الاقتداء بهم هذا مع ملاحظة (أنكم لا تقدرون على ذلك) كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام، فإضافة إلى الظروف الموضوعية (زمانا ومكانا) والتي ترافق صعود البطل مما لا يتكرر وجودهما في كل وقت، إضافة لذلك فإن هناك عاملا أساسيا يجعل تكرار البطل (كاملا) غير ممكن، ما نعتقده في الأنبياء والأوصياء من أن الله قد أعطاهم ميزات استثنائية تبعا لما حملهم من مسؤوليات استثنائية كذلك.
ولكن هذا لا يسقط عن الكاهل حمل المسؤولية في الاقتداء.. كما قال الإمام (ع) في كتاب لعامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصاري وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها:
"ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به، ويستضئ بنور علمه، ألا وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد"
الطمر: الثوب الخلق.
القرص: الرغيف.