﴿قَالَ الْمَلَأُ﴾
سورة الأعراف
قَالَ المَلَأُ مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿الأعراف: ٦٠﴾
قَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ ﴿الأعراف: ٦٦﴾
وَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ لَئِنِ اتَّبَعتُم شُعَيبًا إِنَّكُم إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴿الأعراف: ٩٠﴾
قَالَ المَلَأُ مِن قَومِ فِرعَونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴿الأعراف: ١٠٩﴾
سورة هود
فَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُم أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُم عَلَينَا مِن فَضلٍ بَل نَظُنُّكُم كَاذِبِينَ ﴿هود: ٢٧﴾
سورة المؤمنون
فَقَالَ المَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَومِهِ مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثلُكُم يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيكُم وَلَو شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعنَا بِهَـٰذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ﴿المؤمنون: ٢٤﴾
وَقَالَ المَلَأُ مِن قَومِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَترَفنَاهُم فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثلُكُم يَأكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ مِنهُ وَيَشرَبُ مِمَّا تَشرَبُونَ ﴿المؤمنون: ٣٣﴾
*****
مقدمة
من أرسخ السُّنن في القرآن الكريم أن سير التاريخ هو عبارة عن معركة ممتدّة بين طرفين، الحق في جانب (ويتبعه في الغالب الأعم المستضعفون والفئات المهمشة) والباطل في جانب (ويتبعه المترفون والمستكبرون ومن يضللونه من الجماهير). ويصوّر الله تعالى في آيات كثيرة كيف أنّه بينما يدعو جانب الحق بالحُجّة والحوار، يلجأ جانب الباطل إلى التهديد، ويدافع عن عقائده الفاسدة بشكل هو أشبه ما يكون بعقلية القطيع، سواء على مستوى القاعدة الجماهيرية، أو على مستوى أشراف القوم.
وسيتضح ذلك بملاحظة أن كل آية في القرآن أتى فيها التعبير "قال الملأ"، فهي تسجّل قول مجتمع ضال يواجه رسوله بالتكذيب، أو يتهمه بالسفاهة والضلال، أو يتوعّده لكي يعود إلى ضلالهم. هُنا يركّز القرآن على فئة معيّنة هي طبقة الوجهاء والأشراف، السادة الذين يتصدرون مسيرة الاستكبار ويضلّون الخلق بعنادهم. يصوّرهم لنا القرآن لا كأفراد متمايزين لكل منهم قناعاته وانحيازاته، وإنما هم عبارة عن كيان اسمه "الملأ" يفقد فيها كل إنسان فرديّته وقدرته على التمييز، ويصبحون جميعًا وحدة متجانسة غير متمايزة هي "الملأ" الذي يقول ويقرر، كأن القرآن يقول لنا إن عقلية القطيع التي تُستغفَل بها المجتمعات، إنّما هي انعكاس لعقلية القطيع التي تسيطر على نُخَب هذا المجتمع على مختلف الأصعدة.
وإذا دققنا النظر أكثر في هذا التركيب، سنجد أنه لم يرد في القرآن الكريم إلا في ثلاث سورر فقط هي: الأعراف وهود والمؤمنون. وبقراءة هذه السّوَر، سنجد أن الله تعالى أودع فيها نظرية متكاملة لفهم طبيعة عقلية القطيع، وأسباب نشوئها وكيفية مواجهتها. وذلك كما يلي.
طبيعة الظاهرة
الطريقة المفضّلة للقرآن الكريم في تحليل الظواهر هي التصوير الفنّي، خاصة من خلال التشبيه وضرب الأمثال. وبالفعل، فكُلّ سورة من السور الثلاثة تتضمن صورةً حيّة لعقلية القطيع:
الأعراف: أُولَـٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿١٧٩﴾
هود: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ﴿٢٤﴾
المؤمنون: بَل قُلُوبُهُم فِي غَمرَة مِّن هَٰذَا (63)
فهذه ثلاث لوحات يرسمها القرآن لهؤلاء الملأ. في الأعراف يقول أنهم أضلّ من الأنعام، لأن الأنعام تجد الغذاء والماء وتحفظ نفسها باتباع فطرتها، أما هؤلاء فلشدّة عنادهم يأبون أن يتبعوا فطرتهم السويّة، ولا يرضيهم إلا الاعوجاج، فالواحد منهم كما وصفه الإمام (ع): " مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة".
وفي هود يشبههم الله بالعُمي والصُّمّ، وذلك ليس فقط لأنهم لا يرون ولا يسمعون، بل لأنّهم لشِدّة انحرافهم فقدوا تمامًا القُدرة والحواس التي تمكنهم من معرفة الحق، فحتى لو أرادوا أن يفتحوا أعينهم وآذانهم فلن ينفعهم ذلك، وفي ذلك يقول الإمام (ع): "من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق"
وفي المؤمنون يصف الله قلوبهم أنها "في غمرة"، أي أنها مغمورة منغمسة في السيئات، مغطاة من كل ناحية فلا يستطيع الهُدى أن يصل إليها. هذه الصورة توحي بشدة استقرار قلوبهم على هذه الحالة، كأنها "منقوعة" في ظلمات الضلال.
وهذه الصور الثلاثة إذا وضعناها جنبًا إلى جنب، تبيّن لنا أن القُرآن يشخص ظاهرة عقلية القطيع بأنها حالة ميئوس منها من الانتكاس تؤثر في القلب فتظلمه، وفي الحواس فتطفئها، وفي العقل فتمحقه. وقد وصف الله تعالى ذلك بأدق لفظ: "قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ"، أي تتراجعون إلى الخلف، ابتعادًا عن الحق وسقوطًا في هاوية الباطل.
تشخيص الأسباب
من جمال النسيج القرآني أنّه عندما يكرر القصص، فإنه يغيّر زاوية الرؤية قليلًا لكي يخرج الإنسان في كل مرة يسمع القصة نفسها بعبرة مختلفة، فيتعمّق فهمه لها.
كل السور الثلاث تتضمن قصص عدد من الرّسُل الذين كذبتهم أقوامهم. لكِن السورة الواحدة يبرز فيها سبب معيّن هو الذي أوصلهم إلى ذلك. وهذه الأسباب هي كما يلي:
1. التقليد (الأعراف)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴿٢٨﴾
أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم ﴿٧١﴾
قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴿١٣٨﴾
السبب الأوّل، ونحسبه هو الأغلب على االخلق، هو التقليد الأعمى دون إعمال الفكر، وهو الذي حذر رسول الله (ص) في أحاديث كثيرة منها قوله: "لا تكونوا إمَّعةً؛ تقولون: إن أحسنَ الناسِ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمْنا"، وهو نوعين كما يتضح في السورة، تقليد القُدامى والآباء، والاقتداء بالمعاصرين من الأمم الأخرى.
2. اتباع أئمة الضلال (هود)
وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ﴿هود: ٥٩﴾
فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ﴿هود: ٩٧﴾
السبب الثاني هو اتباع أئمة الضلال، وهذا يكون إما خوفًا من الجبابرة كعامة قوم فرعون أو طمعًا في عطائهم كسحرته، أو انبهارًا بتضليل العلماء كمن عبدوا العجل من بني إسرائيل.
وقد قال رسول الله (ص): "إنَّ أخوفَ ما أخافُ على أمَّتي الأئمةُ المضلُّونَ"، لعلمه بجسامة خطرهم ولصعوبة الفكاك من الأغلال التي يوثقون فيها أممهم. وفي الرواية عن الإمام الصادق (ع) أنه أوصى أبي حمزة الثمالي فقال: " إياك أن تنصب رجلا دون الحجة فتصدقه في كل ما قال".
3. الاستكبار (المؤمنون)
مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴿٢٤﴾
وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴿٣٤﴾
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴿٤٧﴾
السبب الثالث في الانصياع لعقلية القطيع هو أن المجتمع عندما يأتيه المصلحون بالهُدى، فإنه يسارع إلى الطعن في شخصيتهم وينسج الأكاذيب عن مطامعهم ويحقّر من شأنهم (ولو كانوا في طهر وتجرّد وشرف أولي العزم من الرّسُل). هذه العقلية الرجعية الجامدة نابعة من الاستكبار وطاعة الهوى، حتى تختل المعايير ويصبح الصالح فاسدًا، والمحسن مسيئًا، ويزداد الظالم عتوًّا ويصبح الفرد كما قال رسول الله (ص): "لا يعرفُ معروفًا ولا ينكرُ إلا ما أُشرِبَ من هَواه". وتروي لنا السيرة أن أبا جهل (كممثِّل للملأ الذين كفروا من قوم محمد صلوات الله عليه وآله) عندما نزل الوحي، قال إنه يكفر بالدعوة المحمّدية لئلا يكون السبق لبني عبد مناف على بني أميّة، فهذه النظرة الجاهلية المتكبِّرة هي التي أسقطته هو وأشراف قريش.
ولا يخفى أن الأسباب الثلاثة (التقليد والاستكبار واتباع أئمة الضلال) قد توجَد كلها في المجتمع الواحد، فبعضها يقوّي بعض، ففساد النُّخَب باتباع الهوى يؤدي بلا ريب إلى صعود الجبابرة الذين يزيدون المجتمع ضلالًا، وباستمرار هذا التفسّخ الأخلاقي جيلًا تلو جيل يفقد المجتمع بوصلته ووجهته دون رجعة، وتحق عليه كلمة العذاب.
3. الاستكبار (المؤمنون)
مَا هَـٰذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ ﴿٢٤﴾
وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ ﴿٣٤﴾
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ﴿٤٧﴾
السبب الثالث في الانصياع لعقلية القطيع هو أن المجتمع عندما يأتيه المصلحون بالهُدى، فإنه يسارع إلى الطعن في شخصيتهم وينسج الأكاذيب عن مطامعهم ويحقّر من شأنهم (ولو كانوا في طهر وتجرّد وشرف أولي العزم من الرّسُل). هذه العقلية الرجعية الجامدة نابعة من الاستكبار وطاعة الهوى، حتى تختل المعايير ويصبح الصالح فاسدًا، والمحسن مسيئًا، ويزداد الظالم عتوًّا ويصبح الفرد كما قال رسول الله (ص): "لا يعرفُ معروفًا ولا ينكرُ إلا ما أُشرِبَ من هَواه". وتروي لنا السيرة أن أبا جهل (كممثِّل للملأ الذين كفروا من قوم محمد صلوات الله عليه وآله) عندما نزل الوحي، قال إنه يكفر بالدعوة المحمّدية لئلا يكون السبق لبني عبد مناف على بني أميّة، فهذه النظرة الجاهلية المتكبِّرة هي التي أسقطته هو وأشراف قريش.
ولا يخفى أن الأسباب الثلاثة (التقليد والاستكبار واتباع أئمة الضلال) قد توجَد كلها في المجتمع الواحد، فبعضها يقوّي بعض، ففساد النُّخَب باتباع الهوى يؤدي بلا ريب إلى صعود الجبابرة الذين يزيدون المجتمع ضلالًا، وباستمرار هذا التفسّخ الأخلاقي جيلًا تلو جيل يفقد المجتمع بوصلته ووجهته دون رجعة، وتحق عليه كلمة العذاب.
وسائل المواجهة
في كلّ سورة، يرسم القُرآن منهجًا متكاملًا لأهل الحق كي يتعاملوا مع الملأ الضالّ، تنفرد كل سورة ببعض الأوامر والنواهي دون البقيّة. سنركّز هنا على وسيلة واحدة تشترك في الحث عليها جميع السور الثلاثة، وهي متناغمة مع الفلسفة القرآنية في الدعوة، ألا وهي تزكية النفس المؤمنة بدلًا من الانشغال بهداية الأنفس الضالة.
الأعراف: خُذِ العَفوَ وَأمُر بِالعُرفِ وَأَعرِض عَنِ الجَٰهِلِينَ (199)
هود: فَاستَقِم كَمَآ أُمِرتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطغَواْ (112)
المؤمنون: ادفَع بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ نَحنُ أَعلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
الآيات الثلاثة تبيّن رُقيّ الإسلام في التعامل مع تغلغل الفساد في المجتمع. بدلًا من أن يظل المؤمنون في حسرة دائمة على ضلال الضالين، عليهم أن يركزوا على أنفسهم أولًا: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيكُم أَنفُسَكُم لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهتَدَيتُم "، وأن يكونوا مثالًا حسنًا لدينهم وعقيدتهم، كنقطة نور في قلب الظلمات، ويحاولوا الإصلاح بالمعروف. هناك حركات تتذرّع بالغاية النبيلة وتستخدم وسائل غير مشروعة بحجة أنهم عندما يتمكنون سيعودون إلى الإصلاح، أما النهج الإلهي فيتلخص في قول أمير المؤمنين (ع): "لا أصلحكم بفساد نفسي".
ختام
نحن أحوج ما نكون اليوم إلى حسن استيعاب المعاني القرآنية السامية في فهم عقلية القطيع وكيفية التعامل معها، لأن من لم يحذر مواضع الزلل لم يأمن أن يسقط فيها، ومن لم يرَ سبُل الهدى لم يعرف كيف يسلكها. والناس اليوم كما قال الإمام (ع): "فإن الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير"، فعسانا بهدى القُرآن لا نكون منهم.