الانتصار بالنقاط: الله أكبر خَرِبَتْ خيبر
تُعد غزوة خيبر في العام السابع للهجرة نموذجًا عسكريًا بارعًا لاستراتيجية الانتصار بالنقاط، حيث استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله، تحقيق انتصار تدريجي من خلال السيطرة على الحصون واحدًا تلو الآخر، بدلًا من المواجهة الشاملة والمباشرة التي قد تؤدي إلى خسائر جسيمة. وقد أظهرت هذه الغزوة كيف يمكن تفكيك قوة عسكرية منظمة عبر سلسلة من الانتصارات الجزئية، وهو ما يُعد تكتيكًا نفسيًا وعسكريًا في آنٍ واحد.
كانت خيبر مدينةً محصنة تتكون من شطرين، يضم كل منهما مجموعة من الحصون المتماسكة، مما جعلها أحد أقوى معاقل اليهود في الجزيرة العربية. وبعد أن نقض اليهود عهودهم وتحالفوا مع قريش في غزوة الأحزاب، أصبح القضاء على تهديدهم ضرورة ملحة.
عند وصول جيوش المسلمين، أصاب الفزعُ أهل خيبر، ففروا إلى حصونهم وهم يقولون: "محمد والخميس" (والخميس تعني الجيش)، فأعلن رسول الله صلى الله عليه وآله بداية المعركة بحرب نفسية حين قال: "اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، خَرِبَتْ خيبرُ، إنا إذا نزلنا بساحةِ قومٍ فساءَ صباحُ المنذرينَ".
بدأت المعركة بحصار كل حصن على حدة، ما أدى إلى إنهاك العدو نفسيًا وعسكريًا، ودفعه إلى التآكل من الداخل عبر الانقسامات حول جدوى استمرار القتال. بعد محاولات لم تفلح في اختراق "حصن ناعم"، استخدم النبي الأكرم أسلوبًا نفسيًا جديدًا حين قال: "لأعطيّن الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". هذا الإعلان جعل اليهود في حالة ترقب وقلق حول هوية القائد القادم، قبل أن يتقدم الإمام عليّ عليه السلام ليقود المسلمين إلى فتح أول وأقوى حصون خيبر، مسددًا ضربة قاصمة لقوة اليهود العسكرية.
كان قتل قائد اليهود "مرحب" على يد الإمام عليّ ضربةً نفسية هائلة في نفوس اليهود. وبعد سقوط "حصن الصعب بن معاذ" بحصار شديد، انهارت قلاع أخرى تباعًا، منها "حصن النزار" وقلعتا "أُبيّ والزبير"، مما أدى إلى تفكك الشطر الأول من خيبر بالكامل.
اتجه رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الشطر الثاني، حيث كان "حصن القموص" من أقوى الحصون. استلزم فتحه جهدًا أكبر، لكنه انهار في النهاية، واستسلمت الحصون الأخيرة (الوطيح، حصن بني أبي الحُقَيق، والسلالم) بعد حصار دام أربعة عشر يومًا. ومع عزم المسلمين على نصب المنجنيقات، انهارت معنويات اليهود، فطلبوا الصلح دون قتال يُذكر.
لم يكن الانتصار في خيبر مجرد تفوق عسكري، بل كان جزءًا من استراتيجية حرب نفسية. فالسقوط التدريجي للحصون زرع اليأس في نفوس اليهود، وجعل بعضهم يستسلم قبل القتال. كما أن مقتل "مرحب" وهروب بعض القادة اليهود زعزع ثقتهم في قدرتهم على الدفاع عن مدينتهم.
من هذه الاستراتيجية التي اتّبعها النبي الأكرم نتعلم عدة دروس في واقعنا: التدرج في تحقيق النصر، حيث لا يُشترط الانتصار بضربة واحدة، بل يمكن تحقيقه عبر سلسلة من الإنجازات الجزئية. كما أن الضربات المعنوية قد تكون أشد تأثيرًا من القوة العسكرية، فالتفوق النفسي قد يجبر العدو على الانهيار حتى قبل المواجهة النهائية. بالإضافة إلى ذلك، كان تعيين القائد المناسب في الوقت المناسب مفتاح الانتصار النهائي حيث أدى ذلك لانهيار إرادة القتال لدى العدو، كما كان الأمر مع الإمام عليّ (ع).
من الجدير بالذكر أن هذه الاستراتيجية في الحرب النفسية لا تختلف عن طريقة أعداء الله في العصر الحديث، حيث إنهم لا يعتمدون فقط على التحصينات العسكرية، بل يشيّدون جدرانًا من السرديات المضللة والإعلام المُسيّر لحماية أنظمتهم. كما تشير الآية الكريمة: "لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرىً محصنةٍ أو من وراء جدرٍ بأسهم بينهم شديدٌ، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون". هذه الآية تعكس طبيعة الأعداء الذين يبدون متماسكين ظاهريًا، لكنهم متفرقون في حقيقتهم، وسرعان ما تتهاوى أنظمتهم لتسقط شعاراتهم وتنهار معنوياتهم ويقتتلون داخليًا أمام إرادة الصابرين والثابتين على الحق.
وكأن رسول الله صلى الله عليه وآله يبعث لنا برسالة عابرة للزمن ويقول: إن "حصون خيبر" المنيعة ما هي إلا "إسرائيـ.ل" مُصغرة، وإن الضربةَ القاضية للكيان اليهودي التي ستقتلع بابهم وتزيله من الوجود، متمثلةٌ في قيام المُستضعفين من أبناء عليّ بن أبي طالب، ونظرةٌ متأنيّةٌ في الشمال والجنوب والشرق لترى كمْ من " كرارٍ غير فرار" سيتقدمُ ويضرب لـ "يفتح الله على يديه"
" فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً"
- حسن ياسر عمر
المراجع:
_ صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة خيبر 5/ 73. وفي رواية أخرى زاد: الله أكبر خربت خيبر.
_ موسوعة التاريخ الإسلامي: الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي. ج٣ ص٢١.
_ الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي 16/ 370، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ط: 2، 1372هـ، 1952.
_ كتاب الطبقات الكبرى، بن سعد، دار الكتب العلمية – بيروت، 1990، (2/106)..
_ كتاب المغازي، الواقدي، دار الأعلمي، بيروت، 1989، (2/634)..