عندنا تتابع "المثقفين" والمحللين ورجال دين السلطة على الشاشات ومواقع التواصل ستجد نقاشًا محتدمًا وجدلًا ويظن المشاهد العربي أن هناك فعلا تيارات مختلفة لها اعتبارها ووزنها وربما ينحاز مع بعضها ويعادي بعض. ثم عندما يجِد الجدّ، تجد الإسلامي واليساري والقومي يصطفون معًا لطعن المقـ//ومة، كلٌ بمصطلحات جماعته، كأنهم يقرأون من سيناريو موحّد.
فما الذي يحدث؟
هذا المشهد الذي نراه يُسمّى بوهم الاختيار (the illusion of choice). قوى الاستكبار تعلم أن الخطر الأكبر عليها هو وجود جبهة تُعاديها مباشرة، جبهة تستلهم الدين والقيم العُليا وتتحدّث عن المظلومين والمهمّشين وتناصرهم. وإن تُركت لهذه الجبهة مساحة للتحرك، فسُرعان ما سيدرك الناس طبيعة الاستغلال الذي يتعرّضون له، ولذلك فإنّهم يعمدون إلى خطة ذات شقين:
الشق الأول: وضع سقفٍ للتوقّعات، سقف منخفض يجعل الحديث عن الأهداف الكُبرى كالتحرّر أو إنهاء الاستغلال أو الاستكبار كأنه شعارات "متطرّفة" أو "غير عقلانية" أو "غير واقعية" وما شابه، ويمنعون أي صوت يرتفع عن هذا السقف من أن يعبّر عن نفسه دون تشويه أو ملاحقة، وبذلك تتم برمجة صُنّاع الرّأي أنك إما أن تلتزم بالحدود المرسومة وإلا...
الشق الثاني: هو ملء الفراغ في وعي الناّس بمجموعة كبيرة ومتنوعة من الحركات والأحزاب والمبادرات والتيارات، كل منها له أهدافه وشعاراته، وله محبين بل ومتعصبين أيضًا، وله قنوات وصحف ومجلات وحسابات على مواقع التواصل، ولكن كلّها يلتزم بالسقف الموضوع سلفًا ولا يخوض في الصراع الرئيسي بين الحق والباطل. ويُعطى المشاهد الخيار الوهمي: اختر ما يعجبك من هؤلاء، ولا تدع خيالك يبحث عن شيء وراء هذه البدائل.
وهم الاختيار هذا يمنع من تكوّن رأي عام له بوصلة واضحة، وإنما يجعل الناس مشتتة ولاهثة وراء قيادات لا تقود، ومشايخ لا تفقه، ونُخب لا تفكّر. تُستنفد طاقات الشعوب في معارك هامشية بين مطبّع ومطبّع، وبين طائفي وطائفي، وبين متطرف ومتطرّف، ويُعاد تدوير نفس النقاشات ونفس التوجهات بوجوه جديدة.