The Romans have been defeated
غُلِبَتِ الرُّومُ

غُلِبَتِ الرُّومُ ‎﴿الروم: ٢﴾‏

هذه الآية من مطلع سورة الرّوم نزلت لتسجّل واقعة انتصار الفُرس على الرّوم في إحدى المعارك، وتحكي لنا التفاسير أن مشركي قُريش فرحوا حينئذ لأن الفُرس وثنيون، وكانت قريش تحب أن ينتصروا بسبب ذلك. وحينئذ نزلت السورة بنبوءة انتصار الروم مرة أخرى في بضع سنين، بل وبأن المؤمنين سيفرحون يومئذ (تختلف التفاسير هل هذا الفرح بانتصار الروم، أم هو الفرح بالانتصار في غزوة بدر الذي يُقال أنه صادف نفس اليوم). على كُلّ حال، لا تخرج التفاسير في المُجمل عن السياق المُباشِر للصراع بين فارس والروم، وبين صدى ذلك الصِّراع على شبه الجزيرة العربيّة، والمعجزة القُرآنية في التنبؤ بالانتصار المستقبلي.

لكن هناك جانب آخر لهذه الآيات، ودرسٌ أعمَق نُريد أن نلفت النظر إليه اليوم في ذكرى يوم القدس العالمي (الجمعة الأخيرة من شهر رمضان)، درسٌ يشهد عليه سياق التاريخ الذي هو تجلي لإرادة الله ومشيئته، ويشهد عليه سياق سورة الرّوم نفسها، ألا وهو أن تقلُّب النصر والهزيمة الظاهر للأعيُن، قد يُخفي وراءه خُطة كُبرى لا يمكن استشفافها ونحن في خضم الأحداث.

لننظر أولًا على السياق التاريخي الأوسع للمعركة بين الفرس والروم، هذه المعركة هي جزء ضئيل للغاية من حرب هي الأطول في التاريخ الإنساني المعروف، حيث استمرت نحو 680 سنة، من قبل ميلاد السيد المسيح بخمسين عامًا، إلى أن بلغ نبيّنا عليه الصلاة والسلام نحو خمسين عامًا! بالنسبة للعرب الذين كانوا يتفرّجون على المعركة من بعيد، كان هذا صراعًا بين قوتين من القوى العظمى، كلتاهما يملِك من القوة المادية والثروات ما لا تحلم به قبائل العرب، وهذه المعركة كانت اصطدام بين جيوش تقدّر بعشرات الألوف أو مئات الألوف، في حين كانت معارك العرب لا تتجاوز بضع مئات. وكان المؤمنون حينئذ قليل مستضعفون يخافون أن يتخطفهم النّاس.

ولكِن ما كان يكمُن وراء تلك الأحداث هو أن هذه المعارك بين فارس والروم كانت هي الزفرات الأخيرة في حياة كلتا الامبراطوريتين معًا، وأنّهما بينما تبدوان في أوج قوتهما حتى كأنهما خالدتان، (كانت الإمبراطورية الفارسية حينئذ عمرها أكثر من ألف سنة وروما عمرها أكثر من ألف وخمسمائة سنة)، إذا بهما تزولان من الوجود على يد جيوش المسلمين التي تشكلت في زمنٌ يعد كلمح البصر أو هو أقرب في أعمار الأمم.

يقول أحد الصحابة المعاصرين للأحداث: "رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، كل ذلك في خمس عشرة سنة."

الآن ونحن نرى تصادم القوى الكُبرى وتكالب الغرب المهيمن على قلة مستضعفة تخاف أن يتخطفها النّاس، نحتاج أن نتذكر أن لله أمرًا نافذًا ومشيئة سارية، وفرجًا قد يكون أقرب من المتوقع لكننا لا نعلم كيف ومتى سيأتي. هذه هي الخطة التي لا يعلمها أكثر الناس ولا يوقنون بها، كما تذكر سورة الروم في مطلعها وختامها:

وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‎﴿٦﴾‏
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ‎﴿٦٠﴾‏

الساحة العالمية إذًا عند نزول سورة الروم كانت ساحة تتصادم فيها القوى العظمى، الحيّة بمعايير المادة والقوة ولكنها ميتة روحيًا وإيمانيًا، تمامًا كحالنا اليوم، والأمة في حالة مؤسفة من الوهن والضعف والموات، وأعدائها في علوّ وتجبّر.

وبالأمس كما اليوم، يشاهد هذا التجبّر فئة تؤيّد الطغيان وتصفّق له نكاية في المؤمنين، وجماعة مؤمنة لا تزال في طور الميلاد والنموّ بكل ما فيه من هشاشة وضعف.

في هذه الظروف، نزلت السورة لتعد الضعيف بالقوة والتمكين، وتعد القويّ بالوهن والزوال. وأيّدت ذلك الوعد ببراهين كثيرة تؤكد تعاقب الموت والحياة، وتداول القوة والضعف، وهي كما يلي:

1- براهين من الطبيعة: إحياء الأرض بعد موتها (ثلاث مرات):
يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها ﴿‎19﴾
فيحيي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ‎﴿٢٤﴾‏
فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى ‎  (50)

2- براهين من الغيب: بدء الخلق وإعادته (مرتين)
الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون ‎(11)
وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه(27)

3- براهين من تاريخ المجتمع الإنساني: موت الأقوام والأمم السابقة ذات القوة والبأس (مرتين):
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم (9)
قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل (42)

4- براهين من حياة الفرد: دورة حياة الإنسان من الخلق إلى الموت (ثلاث مرات كل مرة أكثر تفصيلًا من التي قبلها)
ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون (20)
الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم (40)
الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة (54)

فهذه عشر آيات تركّز فيها سورة الروم على معاني الخلق والبعث فقط، ولا يخفى ارتباط ذلك بثنائية التمكين والزوال، التي هي بمثابة بعث أُمة بعد موتها، وهلاك أمة بعد حياتها. وكلّ تلك الآيات يرتبط مباشرة بمطلع السورة، لأننا لو أدركنا وآمنّا أن المحرّك للأمور كلها هو ربّ واحد قدير، لعلمنا أن سنته في تعاقب الأحوال سارية في كل الموجودات، في الكون وفي التاريخ وفي أنفسنا، وأنّنا في وسط الأحداث والزلازل، نظنّ أن هذا الوضع سيظل سرمديًا لن يتبدّل، بينما قد يكون ذلك مقدّمة لتغيير كبير وفتح عظيم.

فكما خلق الله الكون كله والسماوات والأرض بالحق:

مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ‎﴿٨﴾‏

فإنه قد كتب على نفسه أن ينصر جنده بالحق:

وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ‎﴿٤٧﴾‏

في يوم القدس العالمي، لا يفوتنا أن نذكّر أن الإمبراطورية الأمريكية اليوم تصف نفسها بشكل صريح أنها وريثة الإمبراطورية الرومانية، وأنها بجبروتها تعاند مجرى التاريخ والطبيعة التي فطر الله عليها الكون، وأن محور المقـ//ومة يصف نفسه بشكل صريح أنه وريث الجماعة المؤمنة التي أقامها النبيّ وآله والصادقين المخلصين من أصحابه السائرين على فطرة الله التي فطر الناس عليها، والأيام أشباه كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام، فعسى أن نشهد في حياتنا يومًا موعودًا كما وُعِد إخواننا الذين من قبلنا، يومًا نستبشر فيه "بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ"

 

 

تاريخ النشر 28-03-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة