المراحل الانتقالية لمواجهة المستكبرين
من خلال قصة النبي موسى عليه السلام يُمكن استخلاص العِبَر النافعة للأمة في صراعها بين الحق والباطل.
إن موسى "ع" بحسن تدبير الله ومشيئته قد نشأ في قصر فرعون بين كنف الله ورعايته، فَلَمّا حان الوقت لتَجَلّي الحكمة الربانية، أرسَلَ الله له إشارة فأبصرها واستجابَ لها (إِنّي آنَستُ نارًا..) (فَلَمّا أَتاها نودِيَ يا موسى*إِنّي أَنا رَبُّكَ فَاخلَع نَعلَيكَ إِنَّكَ بِالوادِ المُقَدَّسِ طُوًى*وَأَنَا اختَرتُكَ فَاستَمِع لِما يوحى*إِنَّني أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلّا أَنا فَاعبُدني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكري﴾
وكم من إشارة وآية جليّة أُرسِلت لنا لنستجيب لها ونخلع عنّا كُل باطل لنُدرك الغاية الإلهية، فالتكليف ما هو إلاّ اختيار إلهي لنا لحمل أمانة الحق وإكمال العبودية بإقامتها.
وإقامة العبودية تتحقق بالانتقال لميادين العمل لمواجهة الباطل، فأوّل ما نحتاجه هو رؤية مكامن قدراتنا المتاحة، كما حدَثَ حين لفَتَ الله موسى لما بين يديه بسؤاله إيّاه:
{مَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ؟ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ* قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ*فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ}
فَكَم من عصا بين أيدينا يلزمنا اختبارها لنتَحَقّق مدى فاعليتها، فحين نصدق ونُخلص لله في إقامة الحق فإنه سيمدنا بقوته، حتى أن كل أداة ووسيلة قد تبدو عادية ستحمل تأثيرًا قويًا وفاعلاً، فقوة الله هي السر لتحوّل عصا موسى من {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي} لآية عظيمة {حَيَّةٌ تَسْعَىٰ}
ثم بعدَ أن أبصرنا بالإمكانات فلننطلق لساحة المواجهة {اذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ} ولنفهم نوع عدوّنا {إِنَّهُ طَغَىٰ} متّكِلين على الله {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} طالبين منه المعونة {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي* هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}
وقَد تحقّق ذلك بتسخير جبهات الإسناد {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ..} فلنطمئن ونوقن بمعيته {..إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ} مبتدئين بتبليغ الرسالة بالحسنى {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشى} فإن {كَذَّبَ وَأَبَىٰ} فلنُلقي بكُل عصا حق نحمِلها ليدمَغ كل باطل ويزول {أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
وإذا زاد جُرم الطغاة علينا وانتُهِكَت الأعراض واستُبيحَت الدماء {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} {استَعينوا بِاللَّهِ وَاصبِروا إِنَّ الأَرضَ لِلَّهِ يورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ وَالعاقِبَةُ لِلمُتَّقينَ}
ولو اشتد تكالب الأعداء أكثر وحوصرنا مِن كُلّ جانب كما نشهده اليوم حقيقةً، فلندرك بأنه اختبار إلهي فاصل لمدى قوّة إيماننا، ولنعلم أنه سيظهر مُرجِفون مِن ضِعافُ الإيمان كما بعض قوم موسى حين قالوا: {إَنَّا لَمُدرَكُوْن} {أوذينا مِن قَبلِ أَن تَأتِيَنا وَمِن بَعدِ ما جِئتَنا}
فلنثبُت رغم انعدام الأسباب مواجهين المُشَكّكِينَ باليقين {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبّي سَيَهدينِ} وهنا علينا الانتقال لزيادة مستوى القوة في العمل، فلَم يعد مُجَرَّد إلقاء العصا كافٍ بل يلزمنا الضرب بها {اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ} فيأتينا الكون كلّه مُسَخَّرًا لنا بأمر الله ويُفتَحَ كلّ سَد أمامنا ليتحوّل لمَسلَك عبور نصرنا العظيم {فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} { َأَنجَيْنَاكُمْ} وهو ذاته الوسيلة لهلاك أعدائنا فيه {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} لكن الحكمة أين؟ {وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}.
وإنّ الأمة تشهد هذا العام يوم القدس العالمي في ظروف مختلفة تكالَب عليها الأعداء، وتحالف ضدها الأقرباء، واشتد حصارها وانعَدَمَت الأسباب مِن حولها، فليُقدِم أبناؤها للإبصار بمقدراتهم المتاحة كما فعَل اليمن العزيز، فصرخته في السابق تحَوّلت اليوم لصواريخ بالستية تضرب عمق الكيان، وهكذا فكُل عصا متاحة هي بقوّة الله سيكون لها تأثير فاعل، فليُلقوها حتى يُزهَق الباطل بالحق، وليَضرِبوا بها تارةً أُخرى متيقنين أن الفرَج سيأتي من ذات السَدّ الذي أمامهم، وأنّ الباطل مهما ازدادت قوة عدّته وعدده سيغرَق ويزول.