حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ

الانتصار بالنقاط: حتى إذا استيأس الرسل
حسن ياسر عمر @hassanomar_99

في كل صراعٍ ممتد، هناك لحظة دقيقة، لا تراها الكاميرات، ولا ترصدها الأقمار الصناعية، لكنها أخطر اللحظات وأعمقها أثرًا: لحظة "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا".

ليست لحظة كفر أو شك، بل لحظة الانكسار الكامل أمام حجم الابتلاء، حين يصبح النصر بعيدًا، والخذلان قريبًا، فيصبح كل ما آمنّا به عرضةً للسؤال القاسي: هل كنا على صواب؟

هي لحظة عابرة، لكنها كاشفة.

يختبر الله فيها صدق النوايا، وثبات القلوب، ومتانة العقد. لحظة ينكسر فيها الطين، ليظهر الذهب. ويتقشّر فيها الزيف، لتنكشف الجواهر.

ولذلك، حين تأتي، لا تُنكرها الأنبياء، بل تمرّ عليهم، فيُقرّ بها القرآن، ثم يُعقبها بطمأنينة الوعد: "جاءهم نصرنا"..

في هذه اللحظة، لا تُقاس الجبهات بعدد المقاتلين، ولا تُقاس الشعوب بالحشود، بل يُقاس كل شيء بالقلوب: من بقي واقفًا رغم انحناء كل شيء؟ من لم يُبدّل؟ من ظلّ على عهد الدم؟

"بعد أن استيأس الرسل" ليست فقط قصة غابرة، بل سيناريو متكرر في كل تجربة تحرر. في فلسطين، وفي لبنان، وفي اليمن، وفي كربلاء الأمس واليوم.

المعادلة تتكرر: ضغطٌ ساحق، وحصار خانق، وتخلّي الجميع إلّا الثلّة المؤمنة ثم فتنة اليأس.

ثم، لمن ثبت: مددٌ لا يُقاس، وفهمٌ لا يُنسى، وبصيرة لا تخطئ الاتجاه.

في معركةٍ ممتدة لا تُحسم دفعة واحدة، لا يُبنى النصر على عدد الصواريخ، ولا على مشاهد الزحف فقط، بل يُبنى من لحظات الانهيار الذي لم يحدث، من المرات التي قالوا فيها: "انتهت"، لكنها لم تنتهِ.

الانتصار بالنقاط هنا هو انتصار الإيمان حين يُظن أنه فقد مبرراته، فيثبت.

هو حين تتحوّل لحظة "الاستيئاس" إلى لحظة فرز وتطهير وتجديد، يتساقط المتخاذلون، ويتمايز المخلصون، ويولد جيلٌ لا يعرف الهزيمة.

فبينما يرى العدو أن أمد المعركة الطويل سيُنهكنا، نراها نحن زمن التصفية والتمحيص، وزمن إعادة التأسيس. كل موجة عنف تقلب حجارة البناء، لكن ما يبقى بعد كل موجة هو الأصلب، هو الأنقى، هو الأجدر بحمل المشروع.

وهكذا، كلّما طال أمد الصراع، ازددنا رسوخًا، لا وهنًا.

وهكذا، كل نقطة ضعف ظاهرية، تُنضج وعينا، وتُخرج منّا ما هو أثبت وأصلب، فتصبح جزءًا من نقاط التقدّم.

لذلك، لم يكن "ما بعد الاستيئاس" لحظة نجاة فحسب، بل كان تحوّلًا استراتيجيًا نقل المعركة من حالة الدفاع المتعب إلى أفق الشهادة الباسمة، ومن منطق البقاء إلى منطق التحوّل.

هذا هو جوهر النصر بالنقاط في هذه المحطة:

أن لا نخاف من لحظات الانكسار، لأننا نعرف أن الله يجعلها مفاتيحًا للفتح.

وأن العدو، كلما اعتقد أنه كسرنا، لم يفعل إلا أن أضاف نقطة جديدة إلى رصيدنا، لأنه لا يفهم منطق النصر الحقيقي، الذي لا يُقاس بالمساحات، بل بالثبات، وبالقدرة على النهوض بعد كل ضربة، أقوى، وأصدق، وأكثر يقينًا.

"حتى إذا استيأس الرسل"… كانوا قد صاروا جديرين بالنصر.

وهكذا، في مشروع المقاومة، لا نرتبك من لحظات الخوف، بل نحفر فيها جذور الثقة، لأننا نعلم أن أعظم الانتصارات تأتي بعد أشد الانكسارات، وأن "جاءهم نصرنا" ليست صدفةً، بل سنةٌ إلهية لا تتخلف.

تاريخ النشر 08-04-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة