ولّى زمن الهزائم

عيد المقاومة والتحرير: حين استعدنا الوجود من فم العدم

ليست المقاومة مجرّد رد فعل على العنف، ولا هي صرخة غضب عابرة في وجه الغاصب. المقاومة، في معناها الأعمق، هي صراعٌ على المعنى، وعلى الكينونة، وعلى الوجود نفسه. إذ لا يكتفي المستعمِر أن يسلب الأرض؛ بل يعمد إلى قهر اللغة، والجسد. فالمستعمِر يُعيد صياغة لغة التواصل بحيث يصبح المستعمَر مجرد كائن حيواني، لا يحمل من القيم شيئًا يستحقها، بل يُصوَّر كرمز للهراء والتدني. هذه العملية اللفظية ليست مجرد وصف؛ بل هي آلية معقدة لتثبيت السلطة عبر استبداد العقل والروح، مما يجعل لغة الاستعمار بمثابة قفصٍ لغويّ يحبس المستعمَر في حالة دونية مستمرة.

ويتخذ خطاب الاستعمار طابعًا ثنائيًا صارمًا، حيث يتم تقديس صفات المستعمِر التي تُرتبط بالأصالة والصفاء وقوة الإرادة، بينما يُوصف المستعمَر بالألفاظ التي تحاكي صفات الحيوانات.

"وتمضي هذه الثنائية أحياناً الى أقصى منطقها، فتجرد المستعمر من إنسانيته، حتى لتعده حيواناً. انظر الى هذه اللغة التي يتكلمها المستعمر حين يتكلم عن المستعمر، تجد أنها اللغة المستعملة في وصف الحيوانات: إنهم يستعملون هذه التعابير: زحف العرق الأصفر، أرواث المدينة الأصلية، قطعان الأهالي، تفريخ السكان، تنمل الجماهير" فرانز فانون، معذّبو الأرض ص44

وفي وعي المستعمِر، لا شيء اسمه "الإنسان الفلسطيني" أو "الإنسان العربي" بل هناك جسد فائض، عبء ديمغرافي، كتلة بيولوجية مشوهة. ولذا فإن المستعمَر في نظر المستعمِر ليس سوى عدمٍ ناطق.

إنه محرومٌ من إرادة الفعل ومسحوقٌ في ذات وجوده، ومعرّضٌ للمحو في أيّ لحظة، ولا يعدو إلا أن يكون ذاتًا منفيّةً ميّتةً في المكان حتى يصنع شخصية هشّة ومسلوبة الإرادة.

المقاومة: تأكيد الذات وإثبات الوجود

تكمن مشكلة المستكبرين معنا في أننا أباةٌ للضيم، لأنّ أخطر ما يحاول الاستعمار ترسيخه، إنما يتجلى في شعورِ كثيرٍ من الناس بالدُّونية والهزيمة الداخلية والخواء الروحي والمعنوي، حتى نهض مشروع الإسلام المحمدي ليتحدى مشروع الاستكبار، ويثبت قدرة المُستضعفين على المواجهة ويصنع من روح الفرد المؤمن مشروعًا ثوريًا أثبت أنه حطّم مشروع الاستعمار بصنع الانتصارات."نحن مسيرة، أسقطت الذل عن الوجوه الذليلة، وأخرجت إنسان هذه المنطقة، من شعور الضعف، والوهن، والحقارة، إلى شعور العزة، والكرامة والسيادة، والقدرة على صنع التاريخ" (السيد الأمين، 2018)

وتأتي عظمة الإسلام في رؤيته للصراع بصورة أشمل وأكبر تتمثل في تحرير كل المستضعفين المقهورين من سطوة المستكبرين المستبدين، فيسلّح المؤمن بطاقة اليقين ليتعامل مع صدمة الحق وتبعاتها عليه، ويشحذ همته وعزيمته بأن العدل سيعم هذا العالم في نهاية المطاف رغم الظلم والبطش والعدوان. وفي سياق الذات التي تتبنى الدفاع عن الإسلام والأرض والكرامة والذبّ عن المستضعفين،

يقول سمـ.ـاحة السيّد الأمين: "إن أقصى ما يملكه عدونا هو أن يقتلنا، وأقصى ما يمكن أن نتطلّع إليه هو أن نقتل في سبيل الله"

هنا يصبح كمال التحرر الإنساني للفرد المستضعف بأن يقتل في سبيل الله. هكذا تفهم أن "الشهادة هي المعادل الموضوعي للحياة" بل قل: إن المقاومة هي الحياة في جوهرها، وهي إثبات الوجود ونفيٌ للنفي الاستعماري.

وفي لحظة من التاريخ العربي الحديث، تمكّن شعبٌ من أن يُخرج العدو من المكان، لا عبر التفاوض، ولا عبر تنازلات، بل تحت النار.

في 25 أيار من العام 2000، خرجت "إسرائيل" من الجنوب اللبناني، تجرّ وراءها أذيال الخيبة والهزيمة وتطرح على نفسها سؤال البقاء. خرجت دون قيد أو شرط، ودون اتفاق أو انسحاب آمن. كانت تلك اللحظة كفيلة بإحداث صدع عميق في بنية المستعمِر:

العدو الذي لا يُقهر، قُهر. الجيش الذي لا يُهزم، هُزم.

في عيد المقاومة والتحرير، نحن لا نحتفل فقط بخروج جيش فحسب، بل بولادة الذات من العدم، بكسر المعادلة التي أراد العدو تثبيتها: أن نكون موتى أحياء في حضرته.

وفي هذا اليوم، نقول كما قال السيّد المستطاب: "ولّى زمن الهزائم، وجاء زمن الانتصارات"

هذا العيد ليس ذكرى، بل موعد. موعدٌ دائم مع الحقيقة: أن المقاومة هي طريق استعادة الوجود فيغدو عيدًا للاحتفال بولادة الإنسان المقاوم الذي يرى في كل لحظة أن "إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت".

تاريخ النشر 25-05-2025