ثم نبتهل

جذور الصمود

اختيار العدوّ هذا التوقيت بالذات لتصعيد الحرب على إيران مثير للاستغراب، فالفترة الحالية حافلة بالمناسبات التي تحيي ذكراها مدرسة أهل البيت وتستمد منها الإلهام كل عام، بدءًا من عيد الغدير (18 من ذي الحجة) إلى ذكرى المباهلة بأصحاب الكساء الذي كان منذ يومين (24 من ذي الحجة) إلى مسير الحسين عليه السلام إلى كربلاء واستشهاده مع آل بيته في العشر الأوائل من محرم، والذي سيهل علينا بعد بضع أيام.

هل كان ذلك من باب غباء العدو أو من لطف تدبير الله، حتى يبدأ الهجوم في أيام لها تأثير عاطفي وروحي كبير على المسلمين مما يسهم في ثباتهم وصبرهم؟ أم إن ذلك كان متعمّدًا من العدوّ لكي يحوّل هذه المناسبات المهمة إلى ذكرى أليمة بالقضاء على الجمهورية الإسلامية فيضرب عصفورين بحجر واحد؟

أيًا ما كان السبب، فقد رد الله كيدَهم عليهم وأخفقت الخُطة، وتهاوت معها سرديات ظلت لزمن طويل تصف إيران أنها دولة ذات مشروع هيمنة منافس للمشروع الصهيو-أمريكي، وأن علاقتها بحركات المقـ//ومة هي علاقة مصلحية بين رأس مدبّر و "أذرُعٍ" منفِّذة. بدا واضحًا من قوة الردّ وطبيعته، أن هناك قِيَم دينية وعقائدية حقيقية ومخلصة هي التي ترشد إدارة المعركة، وبدأت التساؤلات عن ماهية هذه القِيَم.

الرجوع إلى الأحداث المذكورة ورمزيتها هو أوضح سبيل لفهم ذلك. المباهلة مثلًا، ليست مجرد حدثٍ من أحداث السيرة النبوية عند مدرسة أهل البيت، بل حادثة محورية تهدي المؤمن إلى طبيعة الحياة التي يريدها منه الله عز وجل.

يوم المباهلة وأبعاده

خلفية الحدث أن وفدًا من نصارى نجران، فيهم أشرافهم، وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وناظروه في الدين وفي عيسى عليه السلام، وانتهى الأمر إلى نزول الآية ٦١ من سورة آل عمران (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾‏ حيث صدر الأمر الإلهي بأن يأتي كل طرف بالأبناء والبنات والأنفس، ثم يدعو الجميع الله أن ينزل عذابه على الكاذب. فأتى الرسول صلى الله عليه وآله بأصحاب الكساء: الحسن والحسين (مصداق الأبناء) وفاطمة (مصداق البنات) وعليّ (مصداق الأنفس) عليهم جميعًا السلام، فلما رأى الوفد أنه أتى بخاصته، واثقًا بحجته، رفضوا المباهلة وطلبوا الصلح.

هذه الواقعة تتضمن بعض جذور القِيَم التي قامت عليها مدرسة أهل البيت، والتي تؤتي ثمارها الآن في عملية الوعد الصادق وغيرها، نلخصها في هذه النقاط الثلاث:

1. تقديم العترة

أو بعبارة أخرى، تقديم من قدّمهم الله ورسوله، إسناد الأمر لأهله الذين لو تمسكت الأمة بكتاب الله وبهم فلن تضل أبدا.

حادثة المباهلة هي إبراز لمكانة أصحاب الكساء كأحق الناس بتمثيل الدين الحنيف، وخير سُفَراء نباهي بهم الإنسانية، وكما قال أمير المؤمنين (ع): "لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين. وعماد اليقين".

عندما تُدار المعركة اليوم من مقر "خاتم الأنبياء"، ويكون شعارها "يا علي"، وسلاحها "خيبر"، فهذه ليست مجرد شعارات، وإنّما خيوط تربط حاضر الأمة بماضيها وبأصولها.

2. الاستعداد للفِداء

المباهلة أيضًا كانت دليلًا على اليقين الذين لا يهتز عند النبي وآله صلوات الله وسلامه عليهم، وشجاعتهم واستعدادهم لوضع أنفسهم مواضع الهلاك من أجل إثبات حقيقة هذا الدين وإعلاء رايته، وهي فضيلة متوارثة في أهل هذا البيت، بدءًا من النبيّ وهو يعطي لواءه لعليّ في بدر والمشاهد، ثم عليّ وهو يجعل ابنه الحسن على ميمنة الجيش في صفين، ثم الحسين وهو يعطي اللواء لأخيه أبي الفضل العباس. الدُّعاة إلى القضية هم أحق النّاس بتصدّر الصفوف والتضحية من أجلها.

عندما تتحمل الجمهورية الإسلامية الحصار الخانق والعزلة الدولية لعقود، ويغتال قادتها لا على أرضها فقط، بل في ساحات المواجهة المختلفة، ثم تصمُد وتظل محتفظة بقيادة المحور لكيلا تموت القضية الفلسطينية وتضيع مقدسات الأمة، فليس في ذلك مصلحة دنيوية (بل لعل المصلحة تكون في العكس)، بل التزام بالسير على السّنة النبوية في أدق معانيها.

3. عدم الحِياد

في الآية الكريمة، لم يكن خيار النبي عند عدم نجاح محاولات هداية وفد نجران أن ينسحب أو أن يعلن انعزاله هو ومن معه من المؤمنين، كما لم يكن خياره وهو يرى قريش بجبروتها وثروتها تصد عن دين الله وتعذّب المؤمنين ألا يواجهها بحجة قلة الناصر والعتاد، بل أوجب الله عليه أن يكون في صف يجاهر الكاذبين والمجرمين بالعداء ويستنزل لعنة الله عليهم. هناك التزام كامل في سيرة النبي صلى الله عليه وآله والأئمة من أهل بيته بفهم تكليفهم في ضوء الآية: "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ". حقٌ وباطِل، ولكلٍ أهل، هذا هو جوهر الامتحان الدنيوي.

ليس من المصادفة إذن أن تفشل جميع محاولات العدو في "فصل الجبهات" من بداية الطوفان، أو جعل المحور يقف كما يقف سائر العالم متفرجًا على الإبادة في غزة، ببساطة لأن ذلك الخيار ليس ممكنًا عند أصحاب هذه المدرسة وهذه العقيدة.

الوعد الصادق

هذه النقاط الثلاث هي لمحات خاطفة يظهر فيها شدة ارتباط "الوعد الصادق" اليوم بجذور الإسلام المحمديّ الأصيل. والتعاطف الجارف مع هذا الصمود النبيل بين أبناء الأمة عساه يكون مقدمة لإدراك أن دين التطبيع والعمالة والانسحاق أمام قوى الاستكبار على وشك أن يذهب جُفاءً، وأن إسلام العزة والانتصار للمستضعفين واختيار السلّة على الذلة، هذا الإسلام قد آن له أن يتمكن ويمكث في الأرض.

تاريخ النشر 24-06-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة