قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْن

لماذا اثنتين؟

في خطبة الحسين عليه السلام الثانية يوم عاشوراء، جاءت الصيحة المدوية للإمام: ".ألا وإنّ الدعي بن الدعي، قدْ ركز* بين اثنتين، بين السلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة..." ويعني بذلك أن ابن زياد أو يزيد، قد ترك للحسين اختيارين، أن يبايع ذليلًا، أو يُقتل حيث هو. الرد الحُسيني لا يزال صداه يتردد حتى هذه الأيام، ففي خطاب الأمس، أعلن الشيخ ن. ق. حازمًا: "نحن أبناء الحسين، نحن أبناء المعادلة الذهبية، بين السلة والذلة، هيهات منا الذلة".

لكن هناك جانب في تلك المعادلة يحتاج أيضًا أن نتمعن فيه، لماذا أصر يزيد أو ابن زياد أن يركز بين الاثنتين؟ أو بعبارة أخرى، لماذا يفرض الطواغيت هذين الخيارين دائمًا ولا يرضون بغيرهما؟

*ركَز يعني أصرّ. أصر على أحد الخيارين وهو تشبيه من ركز الرمح أي تثبيته في الأرض.

ضيق أفق

ألم يعطهم الحسين خيارًا ثالثًا يحفظ دماء العترة المطهرة ويبقيهم على سلطانهم، إذ قال: "أيها الناس: إذا كرهتموني فدعوني انصرف عنكم إلى مأمن من الأرض". ولو فعلوا ذلك، كانوا سيكفون أنفسهم مواجهة الثورات المتعاقبة التي اندلعت بعد كربلاء في الكوفة والمدينة، ولما انتهى مُلك البيت السفياني بعد سنوات تُعدّ على أصابع اليد الواحدة.

فهم ضيق الأفق اليزيدي، الذي أفنى ملكَه وخلّد سيرة الحسين، سيضيئ لنا الكثير في أحداث اليوم.

الاستكبار الامبريالي

في التحليل الجيوسياسي، هناك ظاهرة تصف العناد التي تتصف به القوى العظمى، ألا وهي ظاهرة "الاستكبار الامبريالي" (imperial hubris)، وتعني أن هذه القوى لشدة اعتدادها ببأسها وهيمنتها، فإنها لا تنظر إلى خصومها على أنهم تهديد حقيقي، ولذلك لا تقبل التفاوض معهم ولا التنازل ولو قيد أنملة، ولا تُبدي مرونة في المعركة، وإنما تصبح استراتيجيتها الوحيدة هي البطش بأقصى درجات الوحشية. وهذا الاستكبار بالذات يصبح سبب هزيمتها.

الطاغية لا يصبر، وفي عجلته هزيمته.

خسارة تلو خسارة

في المواجهة المباشرة يُصدم المستكبر بشدة بأس القلة الثائرة عليه. كان أصحاب الحُسين مجرد عشرات، وكبدوا جيش يزيد الذي يقدّر بعشرات الآلاف خسائر أجبرته على الانسحاب مرارًا. وحتى إن نجح في الانتصار العسكري، فإن ذلك يتحقق بمشقة شديدة تكذّب استخفافه بخصمه، فتتحطم صورة البأس التي كان يصطنعها، ويُطمع فيه أعداء آخرين يظلون يستنزفونه حتى يتهاوى.

وبسبب شدة الوحشية التي ينتهجها المستكبر، فإنه يخسر معركة الرأي العام، وتسقط القشرة الرقيقة من المبادئ التي كان يسوّغ بها عدوانه. في البدء كان جيش يزيد يقول للحسين أن يزيد "ابن عمه" وينبغي أن ينزل على حكمه، ثم سرعان ما اتضح أن المناشدة بالرحم ما هي إلا قناع. يُصبح الإجرام الأول وصمة عار تُستغل ضد المستكبر حتى يفقد السيطرة على السردية.

عمى المستكبر

وبالمثل، في المعارك الأخيرة على مختلف الجبهات، ليس مفاجئًا أن نرى أن الجبهة الصهيو-أمريكية تضع أهدافًا غير واقعية وتزعم أنها ستحققها في غضون أيّام. في غزّة كان هدف العملية هو تفكيك قدرات المقـ.//ومة تمامًا، وفي لبنان كان الهدف هو تدمير البنية التحتية العسكرية للحزب، وفي إيران، طالب ترامب بالاستسلام غير المشروط.

هذه لغة لا تقبل المساومة لأنها لا ترى الخصم جديرًا بالأخذ والرد. وكما خسرت الجبهة اليزيدية، فإن الجبهة الصهيو-أمريكية خسرت الميدان من خلال الشقوق الذي بدت في مزاعم بأسها العسكري، وخسرت أيضًا الرأي العام العالمي الذي يرى أنها هي المعتدية المجرمة.

هكذا إذن نفهم لماذا يركز الطاغية بين اثنتين؟ لأن استكباره يعميه عن أي مسار آخر.

حتمية تاريخية

في معارك الحق والباطل حتمية تاريخية لخصها القرآن الكريم بقوله: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ)

ولعل المقصود أنه يقللكم في أعينهم، أي يجعلهم يستصغرونكم ويحقرون شأنكم، فيصبح خيارهم هو "الركز بين اثنتين“

وعلى المقابل، يقللهم في أعينكم، أي يجعلكم تستهينون بهم لأنكم موعودون بإحدى الحسنيين، فيصبح خياركم هو "هيهات منّا الذلّة".

لولا أن ركَزَ يزيد، لما انتصر الحسين.
لولا أن ركَزَ كُلّ يزيد، لما انتصر كُل حسين.

تاريخ النشر 29-06-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة