If we were to follow the guidance with thee
إن نتبع الهدى معك...

لماذا يضلّ من يضلّ من النخب والخواص؟ أولئك العالمون المثقفون الواعون، الملمّون ببواطن الأمور والذين لديهم من المعلومات ما يكفيهم وزيادة ليهتدوا.

هل لأن الحق والباطل متشابهان إلى حد يجعل الرؤية ضبابية ولا يعلم الإنسان أن يسير؟ هل لأن القضايا المصيرية تكون ذات معطيات معقّدة لا يمكن حتى لهذه النخب أن تفهم غوامضها؟

هذه الفكرة (أي غموض الحقيقة) مع أنها تبدو ذات وجاهة، ويتذرّع بها كثيرًا رؤوس أهل الباطل عندما تنكشف الحجج الواهية التي يقولونها لأنفسهم ولأتباعهم، إلا أن القرآن ينفيها، حيث يسمّي ما يأتي به الرسل بالـ "بيّنات"، ويصف كل ما يأتي الإنسان ليوجهه نحو الحق أو الباطل بأنه مُبين. فالقرآن كتاب مبين، والشيطان عدوّ مبين، والله سبحانه وتعالى هو الحق المبين. ليس هناك إذًا مجال للشبهة في الاختيار، بل يوم القيامة يُقال لهم (فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم).

فاستحبوا العمى

بل إن القُرآن يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، ويقول إن كون الحُجّة "بيّنة" ليس سببًا للاتحاد أصلًا، بل كلّما كانت الدلائل أوضح، اشتدت الفرقة والاختلاف. يقول تعالى: (وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة).

التشخيص القرآني بكلمة واحدة: "استحبوا".
(استحبوا الكفر على الإيمان)
(استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة)
(استحبوا العمى على الهدى)

يقول الإمام الصادق (ع): "حبُّ الدُّنيا رأس كل خطيئة"، وبهذا تشهد كل جولات الصراع بين الحق والباطل، أن الداء العُضال ليس غياب البصيرة، بل غلبة حُب الدنيا، خاصة على الرؤوس والوجهاء والنخب.

ائتنا بعذابٍ أليم

يسجل القرآن مثلًا الاتهامات التي وُجِّهت للرسول الأكرم صلوات الله عليه وآله بأنه كذاب ومفتري وساحر ومجنون، ولكن الحقيقة هي أن رؤساء قريش كانوا يخشون على ثرواتهم التي جمعوها بكونهم مركز ديانة العرب الباطلة، يقول تعالى على ألسنتهم: (وقالوا إن نتّبِع الهُدى معك نُتخَطَّفُ من أرضِنا). فهم يسمون ما أتى به النبي "الهُدَى، لكنّهم يكرهونه، بل يفضلون الموت عليه (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذابٍ أليم).

وبالمثل، عندما كان جيش يزيد يتأهّب للخروج لحصار الحُسَين، وخُيّر عمر بن سعد بين أن يقتل ابن رسول الله أو أن يترك إمارة الريّ، أشار عليه كل من حوله ألا يأثم ويتورط في دماء العترة، ولكنه أنشد هذه الأبيات التي يعترف فيها أنه يعلم حقيقة الموقف، لكن "قرة عينه" في مُلك هذه المدينة:

أأتــركُ مُـلكَ الريِّ والريُّ مُنيتـي
أم أصبحُ مأثومًــــا بقتلِ حسـيــنِ
حسينُ ابنُ عمِّي والحوادثُ جمَّةٌ
ولكــنَّ لـي فـي الريِّ قُـرَّةَ عَـيــنِ

حقٌ وباطل، ولكل أهل

بيت الداء، كما يصفه أمير المؤمنين عليه السلام ليس أنهم لم يسمعوا الحجة، "بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حَلِيَت الدنيا في أعينهم وراقَهم زِبْرِجُها". هذه هي كل المسألة، أحبوا الدُّنيا وفضّلوها على الهُدى.

أجيال تلو أجيال من الأنبياء والمرسلين والمصلحين، أتت بالحق الناصع، وأرادت أن تسير بالناس على المحجة البيضاء، لكن حب الدنيا في كل مرّة كان هو ما يصرف النّاس، ولا سيما الخواص والنخب الذين لم يلتبس الأمر عليهم. ولعل هذا معنى الحديث: "المرءُ مع من أحَب"، لأنه في الحقيقة مصير الإنسان يتحدّد بمن يعشق. فكل عاشق للدنيا كان سيتخذ نفس الموقف في أي زمان كان ويتبع أي إمام للنار شهدَه، وكذلك كل عاشق الحقّ كان سيتبع أي إمام حق شهدَه، أي كان سيتبع نوحًا وموسى وعيسى، وكان سيتبع محمدًا وعليًا وحسينًا، عليهم صلوات الله وسلامه.

حقٌ وباطل، ولكل أهل.

***
ننصح بقراءة كتاب (الخواص واللحظات المصيرية) للإمام الخامنائي لمناقشة تفصيلية حول هذا الموضوع، وكيف تأتي اللحظات المصيرية في حياة الأمم لتمتحن إخلاص الخواصّ للحق الذي يعرفونه.

 

تاريخ النشر 30-06-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة