كربلاء ساحة العشق
في هذه الأبيات، يصف الشاعر حالة فريدة من الحزن على الحسين عليه السلام. فبعد أن ينسبه إلى أهل البيت المطهّرين، يقول له أنا لا أبكيك من أجل ثواب الله، ولا لأنك تنتسب إلى هذه الشجرة المباركة، وإنما أبكي لأجلك أنت، لأني أحبك محبة خالصة مبرئة من أي غرض.
هذا الولَه بالحسين كإنسان عظيم جدير بالحب والإخلاص (حتى إن لم يكُن هو من هو، حتى لو بطُل التكليف بنصرته وموالاته) هو المقام الأسمى الذي يصل إليه خواص الخواص من المؤمنين.
في ليلة العاشر، عندما أخبر الحسين أهله وأصحابه أنهم سيُقتلون ولا ينجو منهم واحد، ومن أراد أن يرحل فليرحل، وجعلهم في حلٍّ من بيعته، لم يغادر منهم أحد حُبًّا له.
وسأله القاسم بن الحسن (وكان غلامًا لم يبلغ الحلم)، وأنا فيمن يُقتل؟ فأشفق عليه، فقال له:
- يا بُنيّ، كيف الموت عندك؟
فأجاب: يا عمّ، فيكَ أحلى من العسَل.
وقوله ذلك كقول الشاعر الصوفي في العشق الإلهي:
تركتُ الخلق طرًا في هواكا... وأيتمتُ العيال لكي أراكا
فلو قطّعتني في الحبّ إِربًا... لما مال الفؤاد إلى سواكا
من يُحب إلى هذه الدرجة، تصبح كل آلامه في سبيل المحبوب ليست مُحتملة فقط، بل ومرغوبة أيضًا. تلك هي الدرجة التي جعلها الإمام الصادق عليه السلام جوهر الإسلام بقوله: "وهل الدين إلا الحُبّ؟"
هذه المشاهد الأسطورية في كربلاء تجسدت في هذا الزمان في القلة القليلة القابضة على جمر المقـ.//ومة. في إحدى المشاهد التي نُشرت لشُهـ.داء معركة أولي البأس، يقول شابٌ في مطلع العشرينات: "لبيك يا حسين، أنا تركت العلم، وتركت الدنيا كلها، وتركت وتركت وتركت.. فقط من أجل هذه اللحظة" لم تعُد قصص أصحاب الحسين محض روايات، بل أصبحنا نراهم رأي العين، شباب من لحم ودم يعيشون وسطنا، أي ليست المسألة حِكرًا على هذا الجيل الذي عاصر نور النبوة. ولكن الوصول إلى ذلك يتطلب أن نفهم حقيقة الحُبّ.
الحُبّ بهذا المعنى ليس مجرّد خفقان بالقلب أو ترديد باللسان، ولا يُنال بسهولة بل هو أقصى درجات مجاهدة النفس وتزكيتها، فيروى فيما أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: "يا داود من أحب حبيبا صدق قوله، ومن رضي بحبيب رضي بفعله، ومن وثق بحبيب اعتمد عليه، ومن اشتاق إلى حبيب جد في السير إليه". فالدين هو الحب، والحب هو العمل.
هؤلاء المحبين المشتاقين، العالمين العاملين، البكائين لا لأجل مثوبة ولا خوفًا من عقوبة، هم أهل الوعد الذي هو أعظم من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، هم أهل قوله تعالى: "وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ".