مَنْ تَخَلَّفَ عَنَّا لَمْ يَبْلُغ الفَتْح

الشهيد الفاتح

عندما اعتزم الحسين عليه السلام الخروج إلى العراق، كتب رسالة إلى بني هاشم جاء فيها:

" بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي بن أبي طالب إلى بني هاشم. أما بعد فإنه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف لم يبلغ مبلغ الفتح والسلام "

يحمل كلام الحسين تناقضًا ظاهريًا، فالفتح عادة يرتبط بالانتصار، بل والانتصار الكبير الذي يشكل تحولًا حاسمًا ومنعطفًا رئيسيًا. ولكن الحسين استشهد. فماذا يعني كلامه؟

يعني أن استشهـ//ده هو عين الفتح!

فهو يقول أني مقبل على الشهـ//دة، لكنّي مع ذلك سأنتصر انتصارًا يبلغ مبلغ الفتح، أي أن مصرعي سيكون "عين الانتصار والغلبة"، وهذه هي خصوصية النهضة الحسينية.

فهو بإنقاذه الدين الخاتم وترميمه ما هدمته السلطة الحاكمة، أصبح له دَين في رقبة كل مسلم، ونور في وجدان كل ثائر، وصنيع عند كل من يدعو إلى الحق حتى قيام الساعة. كان المشروع الذي تُنسج خيوطه هو مشروع "سلامٌ على الإسلام"، مشروع إماتة السنّة وإحياء البدعة. لذلك كانت كربلاء حتمًا مقضيّا.

لاحظوا: غزوة بدر مثلًا على شدة أهميتها، لم يسمِّها القُرآن فتحًا، بينما أسمى صلح الحديبية فتحًا بقوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا) لأنها كانت مقدمة الانتصار الكبير للإسلام وإيذان بانتهاء ديانة العرب الباطلة.

هكذا كان استشهاد الحسين. كان فتحًا وانتصارًا كبيرًا للإسلام والحق والإنسانية.

كانت كل الظروف المحيطة بكربلاء، كما حللها علي الشاوي في كتاب "مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة" توحي بأن الحسين كإمام هذه المسيرة كان يريد تمهيد ساحة المعركة لغرض الفتح:

- المكان: كان حريصًا ألا يتمكن العدو من اغتياله قبل أن يتمكن من الوصول إلى الميدان الذي سينتصر فيه، فترك موسم الحج مفسّرًا قراره بقوله: (لو لم أعجل لأخذت).  لأن اغتياله سِرًّا في مكة يعني ضياع القضية دون مواجهة تقيم الحُجة على الأمة، وحينئذ كان يمكن للسلطة أن تدعي الحزن عليه، بل وتدعو للثأر بدمه!

- الأولويات: لم يبالِ كثيرًا بنصح الناصحين الذين لم يفهموا معنى خروجه ونصحوه بأن يقعد، وكان في رده لبعضهم ما يوحي أنهم مخلصين إذ ينصحونه بأن يسلَم هو وأهل بيته، لكن نظرتهم للأولويات ليست هي الأصلح لمستقبل الأمة.

- التبيين: اختار التحرك إلى العراق حيث لا تستطيع ماكينة إعلام السلطة أن تخفي ما حدث أو تتكتم عليه لتركز شيعته هناك. لا بد أن يصل الحدث بجملته وتفاصيله إلى مسامع المسلمين كي يحقق الأثر المنشود. كما اصطحب النساء والأطفال من أهل بيته، لأنه بعد أن ينقشع غبار المعركة، ستتولى السيدة زينب عليها السلام معركة أخرى هي التبيين، ودورها لا يقل أهمية عن دور أخيها في إحراز النصر

- التوقيت: طلب إلى الجيش المعادي ليلة تاسوعاء أن ينتظروا حتى الصباح، كيلا تضيع أدق التفاصيل تحت ستار الليل.

بفضل هذا التخطيط المحكم والبصيرة الثاقبة، عندما تُستعاد كربلاء اليوم، فإنها تُستعاد كانتصار حاسم للدم على السيف، انتصار لم يترك مجالًا للباطل أن يناور أو يتخفى، معركة لم تتكرر على مر التاريخ من حيث نقاء الطرف المنتصر فيها، وفساد الطرف الآخر وإقباله على أشنع المحرّمات عالمًا بجرمها.

على مر التاريخ، كان هناك شهـ.داء عظام وهناك فاتحين عظام، أما خصوصية الحسين فهي أنه أعظم "شهـ..يد فاتح" على مر التاريخ، قياسًا بحجم التضحيات الكُبرى التي بذلها قائد في معركة واحدة من فلذات كبده، والدماء الزكية من أهل بيت النبوة التي سُفكت، وقياسًا أيضًا بالثمار التي لا تزال تؤتيها ثورته حتى اليوم بعد مرور ما يقرب من أربعة عشر قرنًا.

برغم سطوة السيف، لا يزال الدم الحسيني يجتذب أنصارًا في مشارق الأرض ومغاربها يعرفون حقه، ويسيرون بسيرته، وينتصرون للمستضعفين في الأرض، ويقودون اليوم مسيرة مقـ//ومة الاستكبار العالمي باقتدار.

لأجل ذلك كان من تخلف عن الحسين قد تخلف عن الفتح العظيم، وفاته صحبة "شهــ.//داء لا يسبقهم من كان قبلهم، ولا يلحقهم من كان بعدهم" كما أنبأ عنهم أمير المؤمنين عليه السلام. ولأجل ذلك أيضًا لا يجد جُند الحق في كل زمان نموذجًا يحتذى، ومثالًا أعلى يُسار على نهجه، وانتصارًا أسمى يُطمح إليه، من ذلك الذي أتى به الشهـ..يد الفاتح، الحسين بن علي، صلوات الله وسلامه عليه أبد الدهر.

تاريخ النشر 04-07-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة