الانتصار الزينبي: إنقاذ الذاكرة الجمعية
الذاكرة الجمعية لأمة معينة هي مجموع العناصر المادية وغير المادية التي تربط هذه الأمة بماضيها، فقد يكون ذلك من خلال المعالم والنصب التذكارية والمباني ذات القيمة المعنوية كالأضرحة ودور العبادة، أو قد يكون ذلك من خلال العادات والتقاليد والشعائر والروايات الشفهية كالأشعار والملاحم.
جميع عناصر الذاكرة الجمعية تتضافر معًا لإعطاء الشعب شخصيته وهويته وقيَمه التي يعتز بها وينتمي إليها، وترسم لأبنائها طريق المستقبل الذي يكون امتدادًا لهذا الماضي المجيد، ومن أجل ذلك تكون من أهم مسؤوليات الآباء نقل هذه المعرفة إلى الأبناء.
الذاكرة الجمعية أيضًا من أهم ساحات المعركة في الصراع بين الحق والباطل، وفي ضوء ذلك المفهوم نستوعب عبقرية السيدة زينب عليها السلام في إنقاذها لذاكرة الأمة بعد كربلاء.
عندما يتمكن المستكبرون من السلطة، فإن من أوّل ما يسارعون إليه هو التدمير التام للذاكرة الجمعية، إما بالمحو أو التشويه.
لا ننسى مثلًا أن من أول أهداف الكيان الغاصب في الحرب الحالية كان تدمير الجامعات والمكتبات في غزة، والقضاء على النخب المثقفة التي هي بمثابة السجل الحي للذاكرة الجماعية، الأشعار والعادات والتاريخ، القضاء على كل ذلك يقطع الصلة بين المجتمع وماضيه.
والأمثلة في العصر الحديث أكثر من أن تحصى على طغاة بمجرد أن جلسوا على عروشهم مسحوا كل الماضي تمامًا بحجة أنه "العهد البائد"، وهدموا النصب التذكارية التي تخلد انتصارات الشعوب، بل وعدلوا الصور الفوتوغرافية ليخفوا أشخاصًأ صاروا من المغضوب عليهم.
ليس هذا الأسلوب جديدًا...
فبعد استتباب الأمر للأمويين، كان من أول ما قاموا به هو استهداف ذاكرة النّاس عن أهل البيت، فحظروا كل رواية عن فضل "أبي تراب وأهل بيته"، وأجزلوا العطاء لكل من وضع الأحاديث في فضائل الصحابة الآخرين (ليس حبًا في الصحابة رضي الله عنهم ولكن طمسًا لفضائل أهل البيت)، وأقاموا الخطباء على كل منبر يلعنون الإمام علي عليه السلام ويبرءون منه.
ثم بعد ذلك انتقلوا إلى مرحلة البطش، فأبطلوا شهادة كل من كان يريد الحفاظ على هوية الدين الذي قام على أكتاف الإمام عليه السلام، وهدموا دار كل من روى فضائله.
لماذا إذًا كل هذا النشاط في مجتمع كان خارجًا من حرب طاحنة، والمفترض في العهد الجديد أن يأتي بالسلام؟
الغرض الرئيس هو تفكيك وعي المجتمع، وبالأخص الجيل الجديد، يروي المدائني عن هذه الفترة فيقول: "وأُلقي (أي هذا الأمر) إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم فلبثوا بذلك ما شاء الله".
هذا الجيل الجديد ينشأ مبتور الصلة بعظماء أمته، فلا يعرف أن له تاريخًا مشرفًا من الوقوف في وجه الطغاة، ولا يكون له رموز صالحة يقتدي بها، وإنما يرى في كل ما يسبق العهد الحالي ظلمات ومفاسد لا حصر لها، وبذلك يهون عليه الخضوع للفساد الحالي، بل وربما يمجد قاهريه لأنهم أنقذوه من الجلادين القدامى.
من أجل ذلك كانت مهمة السيدة زينب عليها السلام في نقل ما حدث في كربلاء وتبيين الحقيقة ذات أهمية مصيرية في تاريخ الرسالة المحمدية، والضامن الأكبر لنجاح الثورة الحسينية. نجاح هذه المرأة العظيمة في مهمة "لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا" لا يقل في العظمة عن نجاح أخيها في وقفة "هيهات منا الذلة".
وفي هذا السياق كذلك، أي الحفاظ على الذاكرة الجمعية، يُفهم اهتمام أهل البيت وحثهم المستمر على مجالس العزاء التي لم تنقطع رغم التضييق في بعض الفترات. ويُفهم كذلك نشأة الكثير من العادات المرتبطة بهذه الأيام، كالمضايف ولبس السواد وتعليق اللوحات المكتوبة بالخط العربي وتحمل شعارات ترتبط بالحسين وكربلاء، وحكاية القصة كاملة أو اقتباس شذرات منها في اللطميات، والتشجيع على البكاء وذرف الدموع على مصاب الحسين وآله، ويشارك في ذلك الكبير والصغير، ويرتبط بذلك أيضًا عادات أخرى مثل تسمية الأبناء باسم أبطال كربلاء، كل ذلك يضمن إنشاء مجتمع ذي ذاكرة حديدية غير قابلة للمحو، مجتمع عنده يقين تام بجذوره ومسيرته.
يمكن تزوير التاريخ، وأن يكتب المنتصر ما يشاء فيه، لكن كل ذلك يظل حبرًا على ورق طالما أخفق المستكبر في الهيمنة على الذاكرة الجمعية للأمة. ما دام هناك مبيّنون ومبلّغون يفعلون ما فعلت زينب عليها السلام، فإن الاستكبار يزول بزوال أسبابه، وتقوم الأمة من رقدتها بنفس العنفوان القديم، مستعدة لإعادة اكتشاف نفسها وإحياء مجدها، كأنها لم تغفو إلا ساعة من نهار.