يروى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصى فقال:
"إذا قمتَ في صلواتِك فصلِّ صلاةَ مودِعٍ"
يعني أقم الصلاة كأنها آخر ما تؤديه في حياتك، بخشوع وإخلاص تامّين.
هذه الفكرة وإن كانت في الحديث الشريف تركّز على الصلاة، فإنها ينبغي أن تنطبق على حياة المسلم وأحواله كلّها، أن يعمل لآخرته كأنه يموت غدا، يقبل على الخير بكُلّ ما أوتي، ويدبر عن الشر ويحاربه بكل ما أوتي أيضًا.
تحِلّ غدًا الذكرى الأولى لارتقاء السيد ح. ن.، سيد شهد/ء الأمة، رضوان الله تعالى عليه، عن أربع وستين عامًا، نصفها قضاها أمينًا عامًا لـ "أشرف وأطهر وأعقل مقــ//ومة في العصر الحديث" كما وصفها.
مناقبه وإنجازاته أشهر من أن تذكر، يكفيه أنه قاد الحرب الوحيدة التي يعلن فيها العدو الصهيـــ...وني انسحابه من طرف واحد، قابلاً ذُل الهزيمة على أن يستمر في مواجهة السيد وجنوده. لكن ما يجمع ذلك كلّه ويجمع نشاطه الحثيث طوال أكثر من ثلاثين عامًا في التربية والتوعية وصقل الوعي وتنوير البصيرة أنها كانت "صلاة مودّع".
عندما نستمع إلى خطب السيد منذ ظهر إلى الساحة حتى استشهـــ///ده، سنجد أنه يتحدث بنفس الصدق والحماسة والعنفوان، ويسكب نفسه سكبًا في كل خطبة وكأنها خطبته الأخيرة، ويعود إلى المبادئ الكبرى: مواجهة الاستكبار والدفاع عن المستضعفين.
وأيًا كانت المناسبة التي يخطب فيها، نجده يعود دائمًا إلى الشهــ//دة والإقبال عليها والاستعداد لها، يستعيد تراث سادة الشهدا//ء من أهل البيت عليهم السلام، فيردد:
"أبالموت تهددني يا ابن الطلقاء؟"
ويتحدث عن القتل في سبيل الله كأنه مِنةً إلهية يتفضل الله بها، معيدًا صدى قول جده الحسين عليه السلام: "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما".
لأن حياته كلها كانت صلاة مودّع، فقد كان السيّد أكثر من قائد وأكثر من مقــ//وم، كان أبًا ومربيًا..
لأنه كان ينتظر الموت في كل يوم، كان حريصًا على أن يبث في هذه المسيرة دماءً جديدة طوال الوقت، سواء على المستوى التنظيمي أم على مستوى المتابعين والمحبين في البيئة الحاضنة وخارجها، وأن تنشأ الأجيال الجديدة على بصيرة، يحدثنا عن الصدقة والتراحم والعبادات كما يحدثنا عن السياسة والاقتصاد والحرب.
يختصنا بساعات من وقته الثمين ليزكي نفوسنا ويرقى بعقولنا. تمامًا كما حدثنا التاريخ عن الإمام عليه السلام الذي كان مع انشغاله بالحروب يقوم في النّاس خطيبًا ليوضح لهم معالم الدين، ويعلمهم محاسن الأخلاق ويذكرهم بالله.
بهذا اليقين الصادق كان السيد أول مجيب للطوفان من الأمة كلها بالتأييد والنُّصرة، (وأي نصرة أسرع من دخول المعركة صبيحة يومها الثاني؟)، وأخذ في العام الأخير يختم بعض خطبه بقوله "إلى اللقاء" بوتيرة أكثر من السنوات السابقة.
وقد انتشر بعد شهادته مقطع من خطبته في أغسطس، قبل ارتقائه بشهر، التي ختمها بقوله الذي يتضح الآن أنه كان ينعى به نفسه إلينا:
"لِشـ..هيدنا لا نَقول وداعاً بل نَقول إلى اللقاء، إلى اللقاء مع انتصار الدم على السيف، إلى اللقاء في الشـ..هادة، إلى اللقاء في جوار الأحبة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.“
ثم قوله في الخطبة التالية مباشرة:
"...لكل الشـ..هداء، عهدنا ووعدنا بأن نُواصل الطريق، نحفظ أمانتكم ودماءكم ونُحقّق أهدافكم، والسلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته وإلى اللقاء."
لم يكن ذلك في حقيقة الأمر مجرد إعلانًا للرحيل أو تمهيدًا له، فالسيد حياته تشهد أنه كان مودِّعًا في كل لحظة، جاهد المستكبر ونصح الأمة وعبد الله حتى أتاه اليقين. بل كانت "إلى اللقاء" بمثابة وصيّة لمن يريد اللحاق. كما عاش السيد بهذا الإخلاص كي يلتحق بالشهـد//ء الذين سبقوه ويلقاهم في جنتهم، فقد كان يدعونا أيضًا أن نعيش بمثل هذا الوفاء والثبات كي نلقاه وقد حملنا أمانته وأكملنا مسيرته.
رحل السيد وترك في قلوبنا فراغًا بحجم الأفق. لكنه ترك فينا أيضًا شوقًا إلى اللقاء، وإدبارًا عن دنيا ليس فيها مثله، وإقبالاً على أن نكون من وارثي علمه ومنهجه وخطّه. أن نعيش كما عاش، في صلاة مودّع، حتى يأتي يومٌ يقوم فيه الناس لرب العالمين، ويطل علينا فيه سماحته مع الصديقين والشـ..هداء إن شاء الله، ويحيينا مرة أخرى بسلام.