العبادة الفكرية

العبادة الفكرية

من أخطر الأمراض التي تنهش المجتمعات الإنسانية وتلقي بها في الويلات الدنيوية والأخروية مرض الاتباع وإبطال العقل، أن يلغي الإنسان ملكَة التفكير ويصبح أرضًا خصبة للتضليل، وألعوبة في يد المجرمين. ومن أعظم المفاهيم التي أتى بها القُرآن أن الإنسان لا يُعذَر مطلقًا على الإصابة بهذا المرض، حيث سجّل الله في القرآن صراخ من أبطلوا عقولهم في النار وهم يقولون "رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا".

وعلاجًا لهذا المرض، أتى الإسلام بالدواء الشافي المتمثل في "العبادة الفكرية" كما يسميها الشهـ..يد مرتضى مطهري. وهو مفهوم مقارِب لما قاله العقّاد من أن "التفكير فريضة إسلامية"، والتفكُّر في القرآن مع كونه عِبادة، إلا أنه غير محصورٍ بالتفكّر بالمعنى الدينيّ فقط، أي استنباط الأحكام وفهم مقاصد الشريعة، فالتفكير لدى أمة الإسلام ليس شيئًا نُخبويًا تختص به فئة ذات مؤهلات خاصة، وإنّما هو عبادة من جنس الصلاة والصيام والزكاة، لا تسقط عن المسلم إلا لعلّة قاهرة

والأصل هو وجوبها على الجميع، وفي هذا تحصين للمجتمع من التفسخ الفكري والأخلاقي، ويُستدل على وجوب التفكّر بكثرة الدعوة إليه في القرآن، حتى إنّه يُقدَّم كأحد الأسباب الأساسية لنزول الوحي: "وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".

وسيرة النبي والعترة وأحاديثهم حافلة بالتشجيع على الأخذ بهذا الدواء، فقد ورد في وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان "كثير الصمت، دائم الفكر"، وفي وصف أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان "غزير العبرة، طويل الفكرة".

والتفكُّر في القرآن مع كونه عِبادة، إلا أنه غير محصورٍ بالتفكّر بالمعنى الدينيّ فقط، أي استنباط الأحكام وفهم مقاصد الشريعة، وإنّما يشمل التفكّر الذي يأتي بمشتقات وألفاظ متعددة في القرآن منها "النظر" و "العقل" و "البصر" و "التدبر" و "الاعتبار":

التفكّر في الكون: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ"

التفكّر في التاريخ وقصص الأمم السابقة: "فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ"

التفكّر في الأحداث المعاصرة كالنصر والهزيمة: "لقَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ "

التفكّر في النفس الإنسانية: "وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ“

ومن كلّ ذلك نفهم لماذا أمعن القرآن في ذمّ من يلغي عقله، حيث ينفي عنه صفة البشرية ويجعله كالدواب إن لم يكن أسوأ: "إِنَّ شَر"َّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ"، لأن المجتمع الذي يلغي عقله، أو يسلّم قياده إلى من يشجعه على هذا الجهل، محكوم عليه بأن يرتد إلى أسفل دركات الحيوانية.

فربّما يرى في التوحّش عين الرحمة، وفي الغدر والخيانة عين الوطنية، وفي التجهيل والتضليل عين الوعي.

يصل هذا المجتمع إلى درجة أن يعادي صديقه ويصادق عدوّه، مثلما قال الإمام عليه السلام لأهل البصرة: "خفّت عقولكم، وسفهت أحلامكم. شهرتم سيوفكم، وسفكتم دماءكم، وخالفتم إمامكم; فأنتم أكلة الآكل، وفريسة الظافر"... فنسب عصيانهم وسهولة استغفالهم إلى عدم قيامهم بحقّ العقل عليهم وبدأ بتوبيخهم على ذلك، حتى قبل أن يؤنبهم على مخالفته وهو إمامهم.

والأحداث التي تمر بها أمتنا وسوف تمرّ بها في السنوات المقبلة ستحتاج مؤمنين قائمين بالعبادة الفكريّة بما تحتاجه من تثقف وتعلم وسعة اطلاع واجتهاد وبصيرة، بل نحن أحوج إلى هذا من الصلاة والصيام، فربّما عمرت المساجد بالمصلّين وهي خرابٌ من الهدى.

تاريخ النشر 14-10-2025