هناك من يعتقد أنك عندما تعبر عن رأي مخالف، أو تطرح فكرة لا تعجبه، أنك تتعمد استفزازه أو تهاجمه أو تنتقص من معتقداته. هؤلاء يسارعون دومًا، بدافعٍ من الكبر والتعصب أو الجهل الأعمى، إلى اتهام الآخرين بـ "دس السمّ في العسل". ولكن هذا التحفز يضيع إمكانية النقاش البنّاء. ولنا في تعاليم ديننا التي تدعو إلى الجدال بالتي هي أحسن عبر كثيرة.
"ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ"
بل على الإنسان العاقل والمخلص إلى الحقيقة أن يضع احتمالية أنه على خطأ. قال الإمام الشافعي: رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ، ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ.
ويقول الدكتور عدنان إبراهيم في إحدى محاضراته: "فقد تظن أنك على حق في حين أن الحق قد يكون في جانب عدوك أو خصمك أو في الجانب الآخر. أو قد يكون الحق موزعًا بينك وبينه. هذه النسبية الثقافية أو النسبية المعرفية مقررة في الإسلام بشكل جلي وقد تركت طابعها على الثقافة الإسلامية" ولعل هذه الآية الكريمة أبرز مثال على هذا:
{وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِين}
فنلاحظ في هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وآله "لم يحكم لنفسه وللمؤمنين معه بالهدى رغم وضوحه في جانبهم، ولم يحكم على الكفار بالضلال رغم وضوحه في جانبهم بل قال "أنا وأنتم على النقيض، إن كان أحدنا على الهدى فالآخر في الضلال" (تفسير خواطر للشعراوي) ليترك الحوار يأخذ مجراه دون تعقيد وصولاً إلى النتيجة الحاسمة من موقع الحرية الفكرية.
كما يقول العلامة محمد حسين فضل الله في تفسير من وحي القرآن: "تبين لنا هذه الآية الكريمة أهمية الالتزام بخط الحياد الفكري أثناء الحوار، حيث يجب على المحاور المؤمن أن يطلق الفكرة في دائرة الاحتمال الذي يساوي بين فرضية الخطأ والصواب، أو الهدى والضلال، ليتقدم إلى الآخرين بروحية الباحث (الحق) عن الحق. فحركة الحوار في الإسلام ترتكز على القاعدة العلمية التي ترى في الشك طريقاً إلى اليقين، وترفض القناعات القائمة على أساس إهمال الحوار وإغفال الفكر والإصرار على العناد. وهذا ما يجعل من الحوار الفكري حركةً إيجابيةً في الجواب عن علامات الاستفهام المنفتحة على كل آفاق الحرية في المعرفة، بما يثيره العقل من قضايا ومشاكل وآراء. من هنا، على المؤمن أن يتخلى عن الأفكار المسبقة التي تحول الموقف إلى عقدةٍ تفرض نفسها على كل مواطن الحوار، وتشكِّل حاجزاً يمنع الأطراف من الشعور بحريّة الحركة فيما يقبلون ويرفضون"
بالإضافة إلى كل ما تقدم: من لوازم الإيمان اجتناب سوء الظن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}، وأخلاق المؤمن تحتم عليه ألا يتوغل في نوايا الناس ويطلق الأحكام بناء على فرضيات أو معلومات يتوهم أنها الحقيقة. لنتأمل موقف نبي الهدى والرحمة حينما قال مستنكرًا : "أفلا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أمْ كاذب؟" لأسامة بن زيد وقد أخطأ وحكم بالكفر على شخص دون رويّة، وهذا دليل على وجوب افتراض حسن النية وحسن الظن حتى في أصعب المواقف، ولكن للأسف كما يقال: "بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم".