وأَنا الغريبُ بكل ما أُوتيتُ من لُغَتي ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف الضاد، تُخضعُني بحرف الياء عاطفتي

وأَنا الغريب بكُلِّ ما أُوتيتُ من
‎لُغَتي . ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف
‎الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي

‎وجلستُ خلف الباب أَنظُرُ
‎هل أَنا هُوَ ؟
‎هذه لُغَتي . وهذا الصوت وَخْزُ دمي
‎ولكن المؤلِّف آخَرٌ…
‎أَنا لستُ مني إن أَتيتُ ولم أَصِلْ
‎أَنا لستُ منِّي إن نَطَقْتُ ولم أَقُلْ
‎أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ ‎اكتُبْ تَكُنْ !
‎واقرأْ تَجِدْ !
‎وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ ، يَتَّحِدْ
‎ضدَّاكَ في المعنى …
‎وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ

‎خضراءُ ، أرضُ قصيدتي خضراءُ
‎يحملُها الغنائيّون من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ كما هِيَ في
‎خُصُوبتها ‎ولي منها : تأمُّلُ نَرْجسٍ في ماء صُورَتِهِ
‎ولي منها وُضُوحُ الظلِّ في المترادفات
‎ودقَّةُ المعنى …
‎ولي منها : احتقانُ الرمز بالأضدادِ
‎لا التجسيدُ يُرجِعُها من الذكرى
‎ولا التجريدُ يرفَعُها إلى الإشراقة الكبرى
‎ولي منها : صَدَى لُغتي على الجدران
‎يكشِطُ مِلْحَهَا البحريَّ
‎حين يخونني قَلْبٌ لَدُودُ …

‎لُغَتي . كأني حاضرٌ أَبداً . كأني
‎طائر أَبداً . كأني مُذْ عرفتُكَ
‎أَدمنتْ لُغَتي هَشَاشَتَها على عرباتك
‎البيضاءِ ، أَعلى من غيوم النوم ،
‎أَعلى عندما يتحرَّرُ الإحساس من عبء
‎العناصر كُلّها . فأنا وأَنتَ على طريق
‎الله صوفيَّانِ محكومان بالرؤيا ولا يَرَيَان •
‎نسيتُ وظيفةَ قلبي
‎نسيتُ التنفُّسَ من رئتيّ ‎نسيتُ الكلام
‎أَخاف على لغتي
‎فاتركوا كُلَّّ شيء على حالِهِ
‎وأَعيدوا الحياة إلى لُغَتي !

‎تقول مُمَرِّضتي : كُنْتَ تهذي
‎كثيراً ، وتصرخ بي قائلا ً :
‎لا أُريدُ الرجوعَ إلى أَحَدِ
‎لا أُريدُ الرجوعَ إلى بلدِ
‎بعد هذا الغياب ألطويل …
‎أُريدُ الرجوعَ فَقَطْ
‎إلى لغتي في أقاصي الهديل

‎تقولُ مُمَرِّضتي :
‎كُنْتَ تهذي طويلا ً ، وتسألني :
‎هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ
‎أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ ؟

‎لم تَكُنْ لُغَتي تُودِّعُ نَبْرها الرعويَّ
‎إلاّ في الرحيل إلى الشمال . كلابُنا
‎هَدَأَتْ . وماعِزُنا توشَّح بالضباب على
‎التلال . وشجَّ سَهْمٌ طائش وَجْهَ
‎اليقين . تعبتُ من لغتي تقول ولا
‎تقولُ على ظهور الخيل ماذا يصنعُ
‎الماضي بأيَّامِ امرئ القيس المُوَزَّعِ
‎بين قافيةٍ وقَيْصَرَ …
.
- جدارية، محمود درويش

تاريخ النشر 27-08-2019