قبل أن يتشكل وعينا السياسي والديني، وقبل أن يأتي الطوفان ليعلّمنا ويوقظنا من السبات، وقبل أن نرى الشر المطلق رأي العين.. كنا نقرأ آيات عذاب الآخرة، ونتساءل عن سبب إكثار الله تعالى من وصف النار وطعام أهلها الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، والسلاسل التي تبلغ سبعين ذراعًا، والملائكة وهي تضربهم بالمقامع من حديد.. ونعجب، كيف يمكن أن يدعى هذا الرب بالرحيم؟ أي فعل هذا الذي يستوجب كل هذا الإمعان في التعذيب؟
حينها كنا نمر عليها سريعًا، ونتشبث بأي آية فيها ذكر الرحمة والمغفرة، ونتجنب أي نقاش حول الحكمة من العذاب الأبدي.
ثم أتى الطوفان، وأتتنا مشاهد أشلاء الأطفال والخيام المحترقة والفظائع التي يرتكبها المجرمون كل يوم، يتفننون فيها ولا يمنعهم عنها وازع من ضمير إنساني. في هذا العام لم يعد الإنسان يستطيع أن يذكر كل ما رآه (أنذكر الفسفور الأبيض يكوي الجلد؟ أم القذائف التي لا تنفجر وإنما تخرج شفرات تقطع الأطراف؟ أم "الكواد كوبتر" التي تبث أصوات صراخ أطفال لتستدرج الأبرياء؟)
والآن عندما نقرأ آيات العذاب، كقوله تعالى: "سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ". نعيد قراءتها مرات لتعزّينا، نجد فيها ما يشفي الصدور ونوقن بحكمة الله التي لم نكن نستوعبها
نصدق وعد الله إذ يقول: " قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ"...
ننتظر بحرقة مشهد خزيهم "يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا"...
يريح قلوبنا قوله: "لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَٰلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ".
لا نجد في صدورنا حرج أن ربنا شديد العقاب، بل نعتز بذلك ونجده من أسمى معاني العدل. ولو كان الله رحيمًا بهؤلاء لبطل معنى الاختبار والابتلاء..
أعادنا الطوفان إلى ذواتنا، وأعاد القرآن جديدًا بعض أن نفض عنه ركام الزيف وتمييع المعاني الذي غطوه به، والإنسانية الزائفة الذي انتقدوه بها، وأعاد لنا الخضوع إلى حكمة الله، والآن حتى أكثرنا رأفة لا يمكنه إلا أن يخشع أمام كفتي الميزان المنصوبتين في هذه الآية "إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ".
إن هي إلا لحظات وسنبصر ويبصرون..