في تفجيرات لبنان الأخيرة، وخلال العام الماضي في غزة، طالعتنا صور الجرحى يقيمون الصلاة ويبتهلون إلى الله. مشهد العيون الجريحة، والتي انطفأت في سبيل الله، تتضرع إلى الخالق ويقيم صاحبها الصلاة وهو في حاله تلك. ومشهد أهل غزة يقيمون الصلوات وسط حطام المساجد وبين أطلال المآذن. أو يصلون وهم تحت الرُّكام في ظلمات الليل. هذه مشاهد تُحفر في ذاكرة كل مسلم يؤمن بالله وباليوم الآخر، لأن معنى الصلاة إنما يتضح حقًا بأولئك المصلين.
لم يقل القرآن أبدًا عن فعل الصلاة "صلّوا"، وإنما دائمًا يقول "أقيموا الصلاة"، أي أدوها بحقها متكاملة الأركان، بالجوارح وبالقلب. إقامة الصلاة هي صورة مصغرة لإقامة العدل في الأرض لأجل الله. هؤلاء الصامدون رماهم الكفار عن قوس واحدة لأنهم لا يركعون ولا يسجدون إلا لله، ولو أقاموا الصلاة لغير الله لرضي العالم عنه وتركهم وشأنهم، ولكن هيهات.
ولهذا قرن الله بين التمكين وبين إقامة الصلاة، وجعله أول فعل يبتدئ به الوارثون، فبالصلاة وبمعانيها أصبحوا خلفاء الأرض، وبالصلاة صارت رؤيتهم للعالم كله رؤية ربانية متصلة برب العرش.
لم يسقط الله الصلاة حتى في وقت الحرب والعدو يمكنه أن يهجم في أي وقت، بل فرض على المجاهدين صلاة الخوف، وأقصى ما سمح به للمريض منهم أن يتركوا أسلحتهم أثناء الصلاة. وذلك لأنهم إنما يجاهدون من أجل أن يعلوا كلمة الله، ولذلك فهم أحق الناس بالقيام بفرائضه. وهم لا يصلحون دنياهم بإفساد أُخراهم، ولا ينالون النصر إلا بالطاعة.
وفي الآية التالية بعد وصف صلاة الخوف ذكر لنا معنى الصلاة الذي لا ينقضي بالتسليم: "فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ" (النساء: 103). يعني بذلك أن يكون الإنسان في حالة صلاة دائمة، كأنه محراب نصبه الله في الأرض.
مشاهد صلاة الجرحى أعادتنا لروايات صلاة الإمام علي (ع) وهو يصلّي في صفّين والسهام تتساقط من حوله. ومشاهد جيوش المسلمين الأوائل، فرسان النهار رهبان الليل، الذين هم في صلاتهم خاشعون. فأصبحت هذه القصص ذات الطابع الأسطوري الملحمي، التي ربما كنا نظنها ذات يومٍ مبالغات، أصبحت أشخاصًا من لحمٍ ودم نراهم رأي العين.