إنَّا على العَهْدِ والرَّاياتُ ما سَقَطَت عَهْــدٌ بِناصِيَةِ الأَحْرَارِ مَعْقُودُ

بسم الله الرحمن الرحيم

أوردتم أنَّ لديكم ملاحظات على قصيدة الشاعر العزيز "معاذ الجنيد" في يوم تشييع الأقدسِ وَصَفيّه، وأوجزتموها بنقطتين اثنتين:

الأولى في تشبيه النعش بعرش الرحمن.
الثانية: قوله "أنَّ نصر الله مفقودُ"

ولأجل ذلك نبعثُ الحرفَ طريّا لإبداء رأينا المتواضع، فعليه:

القصيدة متكونةٌ من ٢٣ بيتاً شعرياً، مُتماسكةَ الأركان مَتينةَ البيان، عالية البلاغة، قوية السَبك، شاحذةً للنفس، تتراصُ حروفها كالبنيان المرصوص.

البيت مَحل الإشكال:

قال الشاعر:
كَـعرشِ رَبّكَ هَذا النَعشُ تَحمِلُهُ
مَلائِكٌ بَينهم جبريلُ مَعدودُ

فالقول:

أولاً علينا أن نعرف ما هو العرش ومعنى العرش، وهذا يحتاج لبحثٍ قُرآني وبحثٍ روائي، ومخافة الإطناب سنقتصر على الإيجاز، فالعرش "عندما ينسب إلى الله سبحانه وتعالى ويقال: عرش الله، يراد منه مجموعة عالم الوجود، الذي يعد في الحقيقة سرير حكومة الله تعالى"¹

"وهناك معنى آخر للعرش، وهو أنه قد ورد أحيانا في قبال " الكرسي " وفي مثل هذه الموارد يمكن أن يكون الكرسي (الذي يطلق عادة على المقعد القصير القوائم) كناية عن العالم المادي، والعرش كناية عن عالم ما فوق المادة (أي عالم الأرواح والملائكة) كما جاء في تفسير آية وسع كرسيه السماوات والأرض التي مرت في سورة البقرة."²

1 تفسير الأمثل ج5 ص74، 2 نفس المصدر

ويقول صاحب تفسير الميزان العلّامة الطباطبائي:

"فالعرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شيء، وكل شيء في جوفه. ولذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء كما في قوله: {وترى الملائكة حافين من حول العرش } .."
 

فالشاعر قام باستخدام أداة التشبيه(الكاف) لِـيُشبّه (النعش) بـ (العرش) الذي أوضحنا بإيجازٍ ما هو، وأنَّ وجه الشبه أو الاشتراك هو مقام المَرثي(الأقدس) و (الحَمل) `هذا النعش تحمله’

وَلتبجيله وبيان مقام ممدوحه الرّباني، وجده أهلاً لأن تحمل الملائكةُ وبينهم جبريل هذا النعش الطاهر.

فهذا تشبيهٌ مُرسل ذكرت فيه أداة التشبيه، وفيه مُماثلة(مِثْل) يُستفاد منها علو المُشبه(النعش-وما يُمثله) بالمشبه به(العرش).

وهو تشبيه تمثيل بليغ جداً، يوحي لك ويصور لك أنَّ النعش المحمول على الأكتاف وصاحبه، ذو صفات عالية ربانية، كأنّه العرش في تمظهراته.

و"تشبيه التمثيل: أبلغ من غيره؛ لما في وجهه من التفصيل الذي يحتاج إلى إمعان فكر، وتدقيق نظر، وهو أعظم أثرًا في المعاني: يرفع قدرها، ويضاعف قواها في تحريك النفوس لها، فإن كان مدحًا كان أوقع، أو ذمًّا كان أوجع، أو برهانًا كان أسطع؛ ومن ثم يحتاج إلى كد الذهن في فهمه؛ لاستخراج الصورة المنتزعة من أمور متعددة، حسية كانت أو غير حسية؛ لتكون «وجه الشبه» "¹

ومن مواقع تشبيه التمثيل ما "يكون في مفتتح الكلام، فيكون قياسًا موضحًا، وبرهانًا مصاحبًا، وهو كثير جدًّا في القرآن"²

وإذا "إذا وقع التمثيل في صدر القول بعث المعنى إلى النفس بوضوح وجلاء مؤيد بالبرهان؛ ليقنع السامع، وإذا أتى بعد استيفاء المعاني كان إما دليلًا على إمكانها...،وإما تأييدًا للمعنى الثابت..،وعلة هذا أن النفس تأنس إذا أخرجتها من خفي إلى جلي، ومما تجهله إلى ما هي به أعلم؛ ولذا تجد النفس من الأريحية ما لا تقدُر قدره،.."³

"وبعدُ: فالتمثيل يُكسب القول قوة، فإن كان في المدح كان أهز للْعِطْف، وأنبل في النفس، وإن كان في الذم كان وقعه أشد، وإن كان وعظًا كان أشفى للصدر، وأبلغ في التنبيه والزجر، وإن كان افتخارًا كان شأوه أبعد،..."⁴

1 أحمد الهاشمي-جواهر البلاغة- ص 263 2 نفس المصدر ص 264 3-4 نفس المصدر ص 265

فهو انتزع المحسوس (النعش) إلى غير المحسوس (المعنوي/العقلي) العرش، وركب منهما صورةً بلاغية بتشبيه هو "جريء" لدى بعضنا، لكنه في مَحله.

والبيت الشعري الذي يَليه يُبيّن بعض تجليات ومقامات ممدوحه:

يومٌ تودعُ فيهِ الأرضُ سيدها
يومٌ لهُ الناس مجموعٌ وَ مشهودُ

إذ وصف ممدوحه وأبان مَقَامه، ودَكَّ الخطاب بإنَّ الأرض تُودع سيدها، فممدوحه سَيدُ هذه الأرض قاطبةً؛ فكأنه حَشر الناس قبل حَشرها، وازدلفت الناس معه لحضور مَشهدها زُرافاتٍ زُرافات؛ مما يُحيلنا للبيت الثاني مَحل الإشكال لديكم إذ قال:

كَأنَّه مَحشرٌ لُبنانُ ساحتُهُ
أَهوالهُ أنَّ نصر الله مَفقودُ

ألا فاعلم أنَّ التشبيه بـ كَأنَّ أبلغ مِن سابقهِ بـ(الكاف)، فبعد أن جمع أو جُمع الناس ليومٍ لا مَرد له، يوم توديع الأرض لسيدها، شبه هذا الجمع بالحشر لما تكتنزه هذه الدلالة من شِدة الوقع في الحدث، و لما يرتبط الحشر بدلالاته القرآنية بـ الأهوال، أهوال يوم الحشر، فشبه يوم توديع السيد بيوم الحشر في لبنان، و أنَّ أهوال هذا اليوم(المُشبه بها) يوم الحشر، هي (أنَّ نصر الله مفقودُ) أي فقدناه ما عاد بيننا، ارتحل عنّا، فهذا هولٌ ما بعدهُ هَول، فلا غضاضة فيما قاله، ولكي تكتمل الصورة الفجائعية و البليغة و المؤلمة، يُبين بالاستعارات القرآنية لصورةٍ من صور أهوال يوم الحشر فجلب صورة الآية المباركة

[يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا]

لكن بصورةً تُعبر عن شِدة الحب إذ يقول:

فَـها هُنا تَفتَديهِ كُلُّ مُرضِعَةٍ
و هَا هُنا والدٌ يَبكي وَ مَولودُ
 
فانظر للانطباع الذهني الذي يُوصله الشاعر، عن أنَّ هؤلاء (الجماهير) أهل وفاءٍ وَفِداء، وأنّهم برغم هذه الأهوال الجِسام (فقدان السيد-يوم المحشر) تفتديه كل مُرضعةٍ "بِقبال" ذهول كُل مُرضعةٍ عمَّا أرضعت، وَيبكيه الوالد والمولود، الصغير الوليد والشيخ الكبير، برغم أن فقدان السيد (هو الأهوال قاطبةً) بالنسبة للمحبين، و مع علمهم بفقدانه، إلا أنّهم على استعداد لفدائه!

والفقد هُنا، هو عدم الوجود المادي/الجسدي، لا بالمعنى الكُلي، ولأجل ذلك قال في البيت الثاني عشر12 مواسياً الأرض بفقدانها من كان يواسي فؤادها كلما فقد حبيباً من أحبابها، وهنا إشارة لفقدان القادة الشُهداء، فكأنَّ الأرض كانت تتسلى وتواسي نفسها، بوجود السيد حياً على ظهرها، وفي هذا إشارة للأحاديث المُستفيضة عن بكاء الأرض على المؤمن وحنينها إليه، منها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أبي ذر رضوان الله عليه: " يا أبا ذر إن الأرض لتبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحا"¹

1 مستدرك سفينة البحار - الشيخ علي النمازي الشاهرودي - ج ١ - الصفحة ٤٠٢

فـذلك قوله:

إنَّ المواسي فؤاد الأرضِ إنْ فَقدت
أحبابها، هو عنّها اليوم مَفقودُ
 
أعتذر إن أسهبت مع قولي بالإيجاز والاقتضاب وهو ما أظن أني تَحريتُه؛ لكن اعلموا وأنتم ممن يعلمون، أنّ الجُنيد الشاعر، ينطلق من الثقافة القرآنية والمُحمدية العلوية، فتجد مفرداته وتراكيبه وصوره وأساليبه البيانية والبلاغية، مُستقاة من هذا النبع، مع الشكل الأدبي والقالب الشعري العربي الأصيل.

و السلام عليكم

هذا رأيُ وجُهد المُقل ولربما أخطأت فالعذر منكم

القصيدة كاملة:
محمدٌ نوح إبراهيم داوودُ
موسى وعيسى شُعيبٌ صالحٌ هودُ
ذريةٌ بعضُها من بعضٍ اجتمعت
كلٌّ بتشييع نصرِ اللهِ موجودُ
كعرشِ ربِّك هذا النعشُ تحملُهُ
ملائكٌ بينهم جِبريلُ مَعْدودُ
يومٌ تودِّعُ فيه الأرضُ سيِّدَها
يومٌ له الناسُ مَجْموعٌ ومشهودُ
كأنَّهُ مَحشرٌ لبنانُ ساحتُهُ
أهوالُهُ أنَّ نصرَ اللهِ مفقودُ
فهاهُنا تَفتَديهِ كُلُّ مرضعةٍ
وهاهُنا والدٌ يبكي ومولودُ
تقاطَرَ الخلقُ من عُرْبٍ ومن عجمٍ
هم الحجيجُ وأنت البيتُ مَقْصودُ
توَحَّدُ العِشقُ في الأقوامِ واختلفت
لغاتُهم إِنَّ دِينَ العِشقِ تَوحِيدُ
بين الشهادةِ والتشييعِ نحن كما
في النفختينِ فصَعْقٌ ثُم تَحشيدُ
يا سيدًا حَشَرَ الدُّنيا وأحضَرَها
يحثُّها لَكَ تَقْديسٌ وتَمْجِيدُ
إنَّ الشهيدَيْن نصرُ اللهِ هاشِمُه
كأَنَّهُ السِّبْطُ بالعَبَّاسِ مَسْنُودُ
إِنَّ المُوَاسِي فُؤَادَ الأَرْضِ إِنْ فَقَدَت
أحبابَها هوَ عنْهَا اليومَ مَفْقودُ
جبالُ لُبنان بينَ النَّاسِ باكيةٌ
تُرابُهَا من لَهيبِ الحُزنِ بَارودُ
فوسِّعُوا يا مَوالي الدَّفنِ مَرقدَه
فَلَلقُلوبِ معَ الجُثمانِ تَلْحيدُ
تَشُدُّنَا عِشْتَ للرَّحمَنِ تَدفَعُنا
فَدَمْعُنا اليومَ للرَّحمَنِ مَشدُودُ
ولا يُسَرُّ بهذا الدَّمعِ قَاتِلُه
فَذَا البُكَاءُ الذي يَتْلُوه تَصْعِيدُ
إنَّا على العهدِ والراياتُ ما سَقَطَت
عَهْدٌ بِناصِيَةِ الأحرَارِ مَعْقودُ
أَهْدَافُنا بعدَ نَصرِ اللهِ وَاسِعَةٌ
وصَبرُنا بعدَ نَصرِ اللهِ مَحدُودُ
لَوْ يَمْسَحُ القَصْفُ من فَوقِ الثَّرَى دُوَلاً
بِمَن عَلَيهَا فَمَا فِي القَومِ مَنقُودُ
فَإِن يَعُودُوا نَعُدْ واللهُ قَائِدُنَا
إِن لَم يَعُودُوا صَرَخنَا فَوقَهم عُودُوا
إِنَّ الثَّمَانِينَ طَنًّا عُمْرُ دَوْلَتِهم
صُبَّت عَلَيهِ تَلاشَت وَهُوَ مَوْجُودُ
لَا لَن يَمُوت فَنَصرُ اللهِ مَوعِدُنا
لا لَن يَمُوتُ ففيهِ القُدْسُ موعودُ
إِن هَدَّنَا الحُزنُ فَالرَّحمَنُ مَلْجَؤُنَا
وظَهرُنَا بِابْنِ بَدرِ الدِّينِ مَسنُودُ

تاريخ النشر 26-02-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة