بقلم رهف عليان
في سورة البقرة ورَدَت آيات الصيام مع تفصيل لتشريعاته بإحكام، وإيضاح لحقيقة مفهوم الصيام العملي وغايته وثمَرَته.
الصيام بالمفهوم الإلهي هو تكبير الله سبحانه عن كل ما كَبُرَ بداخلنا، أي كل ما فقدنا التوازن فيه، سواء كان ذلك على مستوى الأفكار أو المشاعر أو العادات أو الأقوال أو السلوكيات.
وفي هذا الصدد يجب تسليط الضوء على جانب مهم ألا وهو أن أبناء الأمة اليوم بحاجة ماسة ليُدركوا ويمارسوا جوهر العبادات دون اتخاذها مُجَرّد شعارات وسلوكيات ظاهرية سطحية، خاصة في معركة الصراع بين الحق والباطل، حيث يُمارسوا تكبير الله حقيقةً لا شعارًا قولاً.
نستكمل مفهوم الصيام.. بَعدَ شهور كنَا نتغَذَى فيها "تغذية أرضية" (والتغذية هنا لا تنحصر كونها مادية بل حتى المعنوية منها) يأتي شهر رمضان لننقطع فيهِ عن الغذاء الأرضي مبتدئين بالمادي من الطعام والشراب، والذي بدوره يساعدنا في الصيام عن الأنواع الأخرى من أغذية الأرض، كالمشاعر المُكتسبة من العلاقات، أو المحتوى الذي ننشره على مواقع التواصل الاجتماعي.
إن استمرارية الإشباع المُكتسب من مصادر أرضية هو في الحقيقة اتصالنا "بالشهوة"، أما الإشباع المُكتسب من مصدر سماوي فهو اتصالنا "بالقِيم" وهو غذاء حقيقي نقي مباشر من الله دون أي تدَخّل بشري، ويكون من خلال تغذية أرواحنا باتصالها بخالقها، وينعكس ذلك بشكل عملي في تكبير الله بحق لأيام "معدودات" أي عددية لـ ٣٠ يومًا على التوالي، وبإتمامه من الفجر حتى الليل يتم فيها "اكتساب تغذية سماوية خالصة ونقية "ثُمّ الإفطار ليلاً" وهنا تغذية أرضية طيّبةٌ نافعة"، فيتحقَق التوازن بالمفهوم الإلهي، حيث يتحوّل الاتصال من "أفقي لعامودي".
وبهذا الانقطاع الأرضي يحدث التطهير على مختلف الأصعدة: روحيا ونفسيًا وقلبيًا وفكريًا، فيتحطّم الباطل وتتلاشى طبقات من الظلمات وتستنير البصيرة، بل يتجاوز التطهير ليشمل الجانب الجسدي فتحدث عملية التشافي والتنقية لخلايانا المريضة، فتزداد مناعتنا وصحتنا ونشعر بالنشاط.
ويلي التطهير تحقيق الغايتين المذكورتين في أواخر الآيات وهما:
التقوى (لعلكم تتقون)
الشكر (لعلكم تشكرونَ)
أما التقوى فهي سر الفلاح في الدنيا والآخرة، فقد وعد الله المتقين بوراثة الدنيا والآخرة في قوله:
(إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)
(وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )
بالتقوى نرتقي إيمانيًا حتى نصل لمرحلة الشكر العملي الحقيقي، وثمرته:
(لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأزِيدَنَّكُمْ).
وعليه، فكلّما كنا "قائمين غير نائمين" خلال صيامنا، تحصّلنا على أكبر نفع ممكن، فلا نكون كمن قيل عنهم (رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع). أي الذي كان صيامه مُجَرَّد إمساك عن الغذاء المادي الأرضي، لكنه لم يعمل على الاتصال السماوي النوراني، وبقِيَ مُتَعَلقًا بما دونَ الله فلَم يُكَبّره عمّا كَبُر بداخله، ولم يزكّي نفسه فلم تَعد فطرته لنقائها.
وبهذا المفهوم يتَبَيّن أن الصيام من أكثر العبادات التي تجعلنا نُمارس التمكين الفكري والشعوري والسلوكي والذي سنشهدهُ بعد ذلك في حياتنا المادية بـ "اكتمال دائرة التمكين" حيث الارتقاء نحو الله تعالى.