هذه الآية من سورة المائدة تحكي عن وصول بني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة، وكان حينئذ يسيطر عليها على حد وصفهم "قومٌ جبّارين". فأمرهم الله أن يدخلوها ولا يرتدوا على أدبارهم، والغلبة ستكون لهم، فجبُنوا وقالوا لرسولهم: " يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ". وجزاء لرفضهم أن يعملوا من أجل أرضهم الموعودة، عاقبهم الله بالتيه في الصحراء، ويروى أنهم "كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادين للخروج منه ، فيمسون في الموضع الذي ابتدءوا السير منه". أي أن الله حكم عليهم أن يسيروا في دوائر لا تنتهي لمّا رفضوا الخط المستقيم.
هذا التوصيف للتيه هو ما نريد أن نركّز عليه. الخطاب القرآني دائمًا ما يضع النصر الموعود على مسافة قريبة، لكن لا بد للفئة التي تريد هذا النصر أن تتحرك بضع خطوات للأمام في خط مستقيم حتى تستحقه.
مجاز الحرَكة هذا نجده في الآية بالمنشور، والتي تختزل مسافة النصر إلى الخطوات بينهم وبين الباب. لم تكن الأرض المقدسة خالية، ولا كان هذا الدخول سيكون سهلًا أبدًا. في واقع الأمر، لا بد أن هُناك معركة كانت ستقع وسيخوضها المؤمنون ليُخْرِجوا الجبارين. ولا بد من خسائر وتضحيات ودماء وجراح وآلام، هذا هو معنى دخول الباب... المجتمع المؤمن لا بد أن يكون مُستعدًا لبذل هذه التضحيات موقنًا بجدواها، وحينها فقط يأتي وعد الله ضاربًا بموازين القوة عرض الحائط.
وهذا المجاز نجده حيًا في اللغة النبوية. كان رسول الله يصف الجهاد بأنه "خروج" في سبيل الله. وكذلك قال الإمام علي (ع) لأهل الكوفة يستنفرهم: "ألا وإني معسكرٌ في يومي هذا، فمن أراد الرّواح إلى اللهِ فليخرُج". فجعل الوصول إلى الله محتاجًا إلى التحرّك والإقبال. وكذلك خطب يومًا عليه السلام فشبّه الجهاد بأنه "بَابٌ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ". وهذا التشبيه من لوازمه أنه حتى لو كان الباب مفتوحًا على مِصراعيه، فلا بد للضيف أن يتحرك بنفسه ويدخُل.
نفس المجاز نجده اليوم متجسدًا في وصف المقاومة بأنها "مسيرة" أو "خَطّ" أو "طريق". وكُلّها متشرّبة بالمعنى القُرآني البليغ الذي يجعل النصر مرادِفًا للحركة والسعي من نقطة إلى نقطة في خط مستقيم. عندما قال السيد الأمين (قده) في جنازة السيد عباس: "هذا الطريق سنُكمِله"، لم يكُن ذلك إلا إعادة صياغة للصورة القرآنية. يقول السيد في خطاب له في 2003: "...ونعرف أن الطريق الذي مشيناه وبتوفيق من الله سبحانه وتعالى، كافئنا الله عز وجل عليه نصرًا وعزًا وكرامة، وسنواصل هذا الدرب..."، فمفردات كالمشي والطريق والدرب كلها مستقاة من معين "ادخُلوا عليهم الباب".
هذه الآية الكريمة كانت هي نفسها إعلانًا لبدء طوفان الأقصى، فَهِم قادتنا أن الغلبة تحتاج إلى الحركة والعمل، وأن السماء كما لا تُمطر ذهبًا ولا فِضة فهي لا تمطر نصرًا أيضًا. فهِموا حقيقة البُشرى الإلهية وثمن دخول الباب ووراثة الأرض المقدسة فدفعوه طوعًا ومضوا في هذا الدرب سُعداء (أو عبروا القنطرة بالتعبير الحسيني)، وإن لم تتعلم الأُمة هذا الدرس، فسيُحكَم عليها أيضًا بأن تدور في دوائر كما دار الذين من قبلنا.. "سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ".