إنَّ صرْحَ العبادات الشامخ ليس مُجرّد طقوسٍ تُؤدَّى، بل هو حصنٌ يتدرَّب فيه المؤمنُ على اقتحامِ كلِّ ساحات الجهاد. فالصلاةُ التي تبدأُ بِـ "الله أكبر" هي ذاتُها الصرخةُ التي تُزلزِلُ عروشَ الطغاة، والصومُ الذي يُذوِّبُ الشهواتَ هو الوقودُ الذي يَصنعُ من أجسادِنا سُيوفًا في ميدانِ الوغى. ألم تَسمعوا قولَ الحقِّ: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ"؟ فما العباداتُ إلا عُملةٌ ندفعُها ثمنًا لشراء الكفر بالطاغوت والإيمان بالله.
إنَّ المُصلِّي الذي يَسجدُ لله سبحانه وتعالى في محراب صلاته، هو القادرُ أن يسطّر أروع الملاحم في ميدان حربه؛ ليسجد على تراب طريق القدس. أترى الفرقَ بين السجودين؟ إنهما وجهان لعملة العبودية الخالصة: فالأولُ ينزعُ عنك أصفاد الدنيا، والثاني يَصنع من قيودك سلاسلَ تُقيدُ بها أعناقَ الظالمين.
والحجُّ الذي يَجمعُ الأمة تحت نداء واحد، هو برهانٌ أنَّ وحدةَ الصفوف في المسجد الأقصى ليست مستحيلة. أليس الطوافُ حول الكعبة تدريبًا على الطواف حول معاقل الباطل حتى تتهاوى؟! أليس رمي الجمرات بجانب كونه رجمًا للشيطان إعلانًا أنَّ حجارة المقا٩مة ستُجهضُ مشاريع الشيطان الأكبر ومُخطَّطاته؟
أما الجهـ/ـادُ الفكريُّ، فهو ابنُ حركات الركوع والسجود. فالمُصلِّي الذي يقرأُ الفاتحةَ في كلِّ ركعة، يتعلَّمُ أن يُفنِّدَ ألفَ كذبة في كلِّ مقالة. ألم يقل الله سبحانه وتعالى: "وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا"؟ إنَّ "به" هنا هي الحجةُ التي تَصنعُ من حروف القرآن سهامًا تُصيبُ قلب الباطلِ.
وكما في الصلاة فاتحةٌ تتكرر في كل ركعة ثم يُترَك للمُكلّف بعد ذلك اختيار الآيات التي سيقرؤها، ففي سبك النصوص وترتيب السطور جنود مصطفة، تتقدم بحجةٍ دامغةٍ، وتنسحب بأخرى تفتح الطريق، وكأن ترتيب الأفكار هندسةٌ محكمةٌ تبني حصون الحق وتصد غارات الباطل، فلا يترك البيان للخصم منفذًا، ولا يمنحه فرصةً لالتقاط أنفاسه فيتساوى حينها مِداد العلماء بدماء الشهداء.
إنّها معركة واحدة تتعددُ أشكالها وأساليبها، ولا تقتصر على لحظة ضعف أو اختبار عابر، بل تتجدد في كل موقف، وكل فكرة، وكل خطوة. فالشيطان ليس مجرد كيان خارجي، بل هو مفهوم ذو مصاديق متعددة: هو الهوى الذي يحاول أن يطغى، وهو الوسوسة التي تزرع الشك، وهو كل كيان مستكبر يريد ردّنا عن ديننا. وليس للمؤمن إلا الثبات والمجاهدة، فلا انفصال بين جهاد النفس وجهاد العدو، بل هما مترابطان، يكمل أحدهما الآخر. فمن انتصر على شيطانه الداخلي، كان أكثر صلابة في مواجهة الشيطان الخارجي، ومن أهمل أحدهما، ضعف في الآخر "إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ"
- حسن ياسر عمر