We have without doubt sent down the Message
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ

الليلة ينتصف أفضل الشهور عند الله، وتزدان السماء ببدرٍ هو علامة التمام، وفي نفس الوقت هو المؤذن بالنقصان وبداية الوداع.

في الأسبوعين الماضيين، شاركنا كل يومٍ تقريبًا تأمُّلات حول آيات قرآنية في مواضيع شتى. لكن الليلة، في ضوء هذا البدر، نتوقّف لننظر لا في محتوى الكتاب واستقراء آياته، بل في حقيقة هذا القُرآن ككل، أن نتدبّر طبيعة هذا الكتاب النوراني ووجوه الإعجاز في حفظه حتى وصل إلينا.

نركز اليوم على ثلاثة أوجه من حفظ القرآن الكريم،

الوجه الأول: اكتمال التنزيل

أي كتابٍ هذا الذي يأتي ليزعم لنفسه أثناء الكشف عنه أنه اكتمل بالفعل لكن صاحبه سيكشف عنه بالتدريج من أجل الناس، كما في قوله تعالى: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا" ﴿الإسراء: ١٠٦﴾‏. أي أن القرآن ادعى لنفسه منذ العهد المكيّ أنه ليس كسائر الكُتُب يكتمل جزءًا فجزءًا، بل هو بدر تام منذ الأزل، والتدريج هو فقط في إظهاره، كالسحب في الليلة الغائمة تنقشع شيئًا فشيئًا لتكشف القمر.

لم يكن النبيّ شابًا يرجو مهلة العُمر، بل كان كهلًا لا يعلم كم سيمهله الأجل، بل حتى لو أمن الأمراض والحوادث الطبيعية كلّها، فإنه صلوات الله عليه وآله كان يعيش حياة محفوفة بالخطر، تآمرت قبيلته لقتله، وطاردته لتظفر به، وحاربته سنوات كان فيها في حومة المعركة، بل أقرب النّاس إلى الخطر، ووصلت إليه سيوفهم غير مرّة. ورغم محاولات الاغتيال لم يكن يتخذ حرسًا.

اكتمال القرآن كما تعهّد لنفسه، وحفظ صاحبه من المخاطر الجسيمة حتى يصل لنقطة يقول فيها "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي" هو أمر لا يستطيعه بشر.

الوجه الثاني: ثباته في عالم طبعه التغيّر

منذ أُنزِل القُرآن، كم دورة دارها القمر، كم هلالًا صار بدرًا فمحاقًا؟ وكم حضارة بزغت ثم وصلت أوجها ثم صارت أثرًا بعد عَين؟ بل كم لغة حية اندثرت؟ وكم لغة جديدة ظهرت إلى الوجود؟

ولا يزال القُرآن كما هو، لم ينقص حرفًا ولم يزدد حرفا. هُناك كتُب عظام أُلِّفَت بعد القرآن بقرون وكتب لها الانتشار في الآفاق، واختفت للأبد بعد موت صاحبها بجيل أو اثنين. بل هناك كُتب حديثة نسبيًا يختلف نصها زيادة أو نقصًا حسب المخطوطات التي وقعت في يد المحقق. لم يُكتَب لأي عمل على مر التاريخ المعروف لدينا أن ظل بهذا الرسوخ على هيئته الأصلية لهذه القرون المتطاولة، فما أغرب أن يكون هذا العمل الباقي هو نفسه قد أتى منذ مولده ليقول إنه نزل ليبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

في ثباته رغم اختلاف الأطوار وتنقلات الآثار أيقننا أن من حفظه هو من على كل شيء حفيظالوجه الثالث: حفظ معانيه من الاستنفاد

هذا هو الوجه الذي نوّه عليه الرسول (ص) في الحديث إذ يصف القرآن بأنه: "لا يَخلَقُ عن كثرةِ الرَّدِّ ، ولا تنقضي عجائبُه ، ولا يَشبعُ منه العلماءُ"، أي أنّه مهما قُرئ فإنه سيظل يكشف عن معانٍ جديدة وأعماق لا تنتهي. كم من فلسفة أو نظرية كُبرى قد أفل قمرها وتخطتها البشرية بعد أن كان الناس يظنون أنها منتهى الحكمة. ولا يزال أهل كل عصر يستنبطون من معاني القرآن الجديد. بل إن الإنسان الواحد كلما ازداد علمه واتسعت مداركه، رأى في نفس الآيات معانٍ لم تكن تخطر له على بال، ويعجب كيف لم يكن يراها من قبل

المعجِز في معاني القُرآن ظهر لنا خلال العامين الأخيرين. ولعل هذا هو ما كانت تحتاجه الأمة. يقول سيد قطب: ":"إن هذا القرآن نزل في جوّ ساخن، ولا يُفهم إلا في مثل هذا الجو الساخن الذي نزل فيه"، وبالفعل كان الطوفان ثورة في نظرتنا للقرآن..

الدِّقة المتناهية في تشريح النفوس وتفسير الأحداث كان مُدهِشًا، صفات المنافقين والمؤمنين، أسباب الثبات والنصر والهزيمة. القدرة على بث رسائل الطمأنينة والأمل، النماذج البشرية في القصص التي تكاد تنطبق بالحرف الواحد على هذه الشخصية أو تلك. لولا هذه الفترة لم نكن لنعلم دقة قول الإمام (ع) إنه فيه: "نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم".

يكتمل البدر فيدهشنا بروعته ولطيف نوره في ظلمة الليل، ثم لا يلبث أن يأفل بعد سويعات، ويعود للنقصان بعد أيام. وبمرور الزمان لا تعود دهشة رؤيته كما كانت. أما القرآن، فهو كما يقول أمير المؤمنين (ع): " نور لا تطفأ مصابيحه وسراج لا يخبو توقده، وبحر لا يدرك قعره، ومنهاج لا يضل نهجه، وشعاع لا يظلم ضوؤه".

في ليلة النصف من رمضان، ندعو إلى الله تعالى أن يمتع أبصارنا بنوره المبين، وأن يشق بقرآنه حجب الظلمة عن قلوبنا كما تنشق ظلمة الليل عن بدر التمام، وأن يحيي به هذه الأمة بعد موتها، إنه على كل شيء قدير.

تاريخ النشر 16-03-2025