﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ (التوبة: 24)
في هذه الآية من سورة التوبة، يتوعّد الله الذين يتثاقلون عن القتال إذا فرض على الأمة، فيقرر إنهم إذا اختاروا الكفّة الأولى، فلينتظروا مصير الفاسقين بالحرمان المؤبّد من الهداية.
في سورة التوبة، تكرر معنى الحرمان بالهداية 5 مرات (الأكثر في القرآن كله):
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿التوبة: ١٩﴾
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿التوبة: ٢٤﴾
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴿التوبة: ٣٧﴾
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿التوبة: ٨٠﴾
وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿التوبة: ١٠٩﴾
من بين هذه الآيات الخمس، هناك آيتان تتوعدان الكفّار (الظالمين والكافرين) وآيتان تتوعدان المنافقين (الظالمين والفاسقين)، وآية تتوعد المؤمنين المتثاقلين عن مسؤوليتهم في نصرة الله ورسوله (الفاسقين). وفي هذا الربط بين الفئات الثلاث تعظيم لهذا الذنب، حتى يُصبِح المتولّي عن النُّصرة قرين المنافقين في الدرك الأسفل من النّار. بل إن الوعيد أسوأ من ذلك، لأنه يتوعدهم بالحرمان من إمكانية الهداية، سيظلون في الدنيا لا يعرفون كيف الوصول إلى الله لأنه أغلق بابه أمامهم، فيكونون ممن (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)
وكذلك إذا قارنا بين مطلع السورة وخاتمتها، سنلاحظ ربطًا من الجنس نفسه:
وَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّكُمۡ غَيۡرُ مُعۡجِزِي ٱللَّهِۗ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (التوبة: 3)
فَإِن تَوَلَّوۡاْ فَقُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَهُوَ رَبُّ ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡعَظِيمِ (129)
فالمطلع يحذّر الكفّار من الإعراض عن التوبة من كفرهم، وإلا فلهم العذاب الأليم. والخاتمة تحذّر المؤمنين من نفس فعل التولّي، لكنه تحذير يحتاج أذن واعية، لأنه لم يقل لهم سأعذبكم، وإنما سأُغني رسولي عنكم، وسأحرمكم من فضل نُصرته.
هذا الرّبط يُرسي لنا سُنّة إلهيّة في تحقيق وعد الله، سواء بالاستخلاف في الأرض أو بالنصر على العدوّ أو بنعيم الآخرة (وكلها ذكرت في سورة التوبة). وذلك أن الله عندما يصدر وعدًا، فإنه سيحققه لا محالة، ولكنّه لا يأتي به دون مقابل، وإنّما يعرِضه على الأمة لتشتريه بأموالها وأنفسها، بالتضحيات وبالآلام وبألوان المكاره، فإن قبِلت فلها ثواب الدُّنيا والآخرة.
أمّا إن رفضت الأمة ذلك، فإن ذلك لا يعني أن الوعد قد فات أو أن الله سيمنع تحققه، بل ما يحدث هو ان الله يأتي بقوم آخرين يقبلون هذه الصفقة مع الله، ويعاقب الرافضين بالذلّ والهوان وبالختم على القلوب، ثم يعاقبهم بأن يستخلف غيرهم: "إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" ﴿التوبة: ٣٩﴾، وربّما يكون تقديم العذاب الأليم هنا على الاستبدال مؤكدًا على أن هذا العذاب دُنيوي.
أو يمكن تلخيص ذلك بالآية التي نقش الإمام الحسين (ع) جزءًا منها على خاتمه: "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" ﴿يوسف: ٢١﴾، الوعد آتٍ بلا ريب، لكن الناس في غفلة عما يريده الله منهم.
وقد صرّح الأئمة بهذه السنّة تصريحًا ليس بعده عذر. فقد قام الإمام الحسن (ع) خطيبًا في أهل الكوفة قبل مقدم أمير المؤمنين عليها فقال: "يا أيها الناس! أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم؛ فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجلة، وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا وابتليتم."
هذا هو نصف المعادلة: الاستجابة أو الاستبدال*، إذ صرّح عليه السلام بأن هناك أمر يريده الله، فإلا ننفر نحن الآن، وإلا فإن الله "سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه".
أما النصف الثاني من المعادلة: الاستجابة أو الإذلال، فنجده في خطبة الإمام علي (ع) إذ يقول: "فَمَنْ تَرَكَه (أي الجهاد) رَغْبَةً عَنْه أَلْبَسَه اللَّه ثَوْبَ الذُّلِّ وشَمِلَه الْبَلَاءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَةِ، وسِيمَ الْخَسْفَ ومُنِعَ النَّصَفَ".
اليوم ليس لدينا شكّ أنّ الله يعرض على الأُمّة نفس الصفقة ونفس الخِيار، فهل نكون من الذين (جَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡخَيۡرَٰتُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ) أم نكون مع الذين (رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ ٱلۡخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ فَهُمۡ لَا يَفۡقَهُونَ)؟