الإيمان بالكفاية الإلهية
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أَحَد أسباب نزول هذه الآية الكريمة "أن قريشًا قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وإنا نخشى عليك معرّتها لِعَيبك إياها. فقال الله عز وجل: أليس الله بكافٍ نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف. وفي هذا تهَكم بهم، لأنهم خوّفوه ممّا لا يقدر على نفع ولا ضر، ويُشرَع أن يُريد بها جميع العباد لأنه سبحانه كافيهم في الشدائد وكافل مصالحهم.
وإذا ما تمَعّنّا في بداية الآية فإنّ الله بلطفه وحنانه وقدرته وعَظَمَته يسأل: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ؟"
يقول الزمخشري: "أن كلمة (أَلَيْسَ) أُدخِلَت فيها همزة الإنكار على كلمة النفي، فأُفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها"
وفي الهاء في (عَبْدَهُ) فرحمةً ولطفًا وحنانًا من الله عز وجلّ، فهوَ يسأل سؤال الإثبات لا الإنكار والنفي، حيثُ يسأل عبده مُذَكّرًا إيّاه إنني الكافي لك من كلّ ما تخافه ويُقلقك ومن كُلّ مكرٍ وسوء أُحيطَ بك، وأكفيكَ بكُلّ ما تحتاجه. يقول ابن القيم: وَهُوَ الْحَسِيبُ كِفَايَةً وَحِمَايَةً، وَالْحَسْبُ كَافِي الْعَبْدِ كُلَّ أَوَانِ.
وقد ذكر الله كفايته لعباده في عدة مواضع منها:
{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}
{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
{..وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا}
فكأن الله ينتَشِل عبدهُ من وعي الضعيف وفقًا لمحدوديته البشرية إلى وعي المؤمن القوي المُتّصل بالمصدر الأساسي السماوي، فيستقبل مدَدًا إلهيًا من العناية والرحمة والقوة والقدرة والتمكين، فمهما بلغَ سوء الواقع الذي هو فيه ومهما انعَدَمَت الأسباب في الظاهر، إلاّ أن تأثير اسم الله الكافي يُحدِث هذه النقلة العظيمة في العبد، فيُخرِجَه مِن خوفه لطمأنينة ربّه، ومن شكِّه لليقين، ومن حيرته للهداية، بما يُشبه الانتقال من ظلمات النفس لنور الله، ومن ضيق الأرض لِسَعَةِ السماء، فيَتَحَصّل العبد على الشجاعة والانضباط النفسي العالي، فقَد اتَّكَلَ قلبه على خالقه آخذًا بالأسباب، فوالله يرى الكون كلّه مُسَخّرًا له ويُلَبّي مَطلَبَه لأنه اتَّصَل بالكافي وتَرَك كُلّ ما سواه، فاكتَسَب وعي هذا الاسم وجَسَّدَ معناه فكرًا وشعورًا وسلوكًا وأَثَّرَ في اختياراته بل إن طريقة تفاعله مع الأحداث من حوله تختلف اختلافًا كبيرة.
ومِن الوسائل المعينة للاستقاء من برَكة هذا الاسم واستشعار حقيقة معناه هو في مناجاة العبد وحديثه مع ربّه بما في نفسه، وبلغته البسيطة دون أي أقنعة وتَكَلّف، ومما سيلحظه فورًا أن هذه الخلوة النقية الطاهرة لن يكون العبد بعدها كما قبلها.
****
في معنى إسم الله الكافي هناك قولان:
١/ قول الخطَّابي: أنه الله الذي يكفي عبادَه المهِمَّ، ويدفَعُ عنهم المُلِمَّ، وهو الذي يُكتفَى بمعونتِه عن غيرِه، ويُستغنَى به عمَّن سِواه .
٢/ قول راغب الأصفهاني: أنّ الكفايةُ ما فيه سدُّ الخَلَّةِ، وبلوغُ المُرادِ في الأَمر.
وكل إسم من أسماء الله يحمِل أنوار عظيمة، فإذا حرَصنا على معرفتها ودَعونا الله بها وبنينا علاقة مباشرة معها ِمن خلال ربطها بجميع أمور حياتنا ثُمّ تَخَلّقنا بمعانيها، فإننا سنعيش بإذن الله النعيم الإلهي في كلّ إسم وهذا من تأثير الإتصال بالقِيَم الإلهية المُتَجَسّدَة في أسمائه الحسنى وصفاته العليا والتي لها علاقة بسائر شؤوننا.
وإذا عَكسنا ذلك على الأمة في صراعها بين الحق والباطل، فإنّنا نحنُ المسلمون في كافّة بقاع الأرض أَشدّ حاجَة اليوم للإيمان بإسم الله" الكافي" والتحرّك الفعّال بآداء تكليفنا مُتَيَقّنين أنّ اللهَ هو كافينا من كل مكروه قَد نواجهه في سبيل نصرة الحق والمستضعفين {وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسبُهُ} أمّا أهلنا المرابطين في كافّة الميادين فإنَّ الله كافيكُم بإذنه رغم تكالب القِوى الظالمة عليكم، وناصركم ومُسَخّر لكم جُندَهُ الصادقين.