أَحَد الأسرار العملية لتَجَلّي الدعاء
{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي فَإِنّي قَريبٌ أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ فَليَستَجيبوا لي وَليُؤمِنوا بي لَعَلَّهُم يَرشُدونَ} سورة البقرة ١٨٦
هذه الآية الكريمة جاءت بين الأحكام التفصيلية للصيام، وقبل أن يمضي السياق في تشريعاته نجد لفتة ربانية عجيبة تُلامس أعماق النفس، وتُخاطب القلب، حيثُ العِوَض الكامل للحبيب القريب المعين على الصيام، والجزاء المُعَجّل على إجابة الدعاء.
{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنّي} في السؤال نسَب العباد لذاته العليا، وتوَلّى إجابتهم بنفسه
{فَإِنّي قَريبٌ} ولم يقل: أسمعهم، تبيانًا بقُربه من عباده على الوجه الذي يليق بجلاله.
{أُجيبُ دَعوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ} إني قَريبٌ من عبادي إذا دعَوني أُجيبهم [تعجيل في الإجابة] فأيُّ رِقّة؟ وأيُّ أُنس؟ وأيُّ لُطف؟ حتى أن العبد يكادُ لا يشعُر بمشَقّة صيامه في ظِلّ هذا القُرب والوِد.
وفي كُلّ لفظ تعبيري من هذه الآية أُنسٌ وسِرّ. فهيَ تجعل المؤمن يشعر بالثقة واليقين، فيَطمَئِن ويُقبِل على خالقه القريب منه راغبًا طائعًا مُستَعينًا به، فهو الملاذ الأمين والقرار المكين، فيعيش لحظاته مُستَعذِبًا مستأنسًا الحديث مع ربّه، مُتَقَلّبًا بين جنبات الرضى والسكينة.
وفي ظلّ هذه المحبة الخالصة والقرب الودود يُوَجّه الله عباده بعد أن أجابهم قائلاً: {فَليَستَجيبوا لي} امتثالاً لأوامري واجتنابًا عمّا نهيتهم، وهي تُشير على ضرورة إقبال العبد وأخذه خطوات عملية تجاه مُراده، وما يؤكد ذلك {وَليُؤمِنوا بي} الإيمان في القرآن دومًا قرين العمل {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فالإجابة هنا من الله، بينما الاستجابة من العبد، يسعى بالعمل الصالح تجاه سؤله. وإجابة الله لعبده قد تنعكس في إلهامات، أفكار، مشاعر، نص مكتوب، شخص، مغفرة ذنب كان يُشَكّل عائقًا، فتُفتَح الأبواب ويَتَيَسّر للعبد دخولهُ شيئَا فشيئًا حتى يشهد دعوته واقعًا.
وفي مواضع أخرى ذُكِرَت فيها الاستجابة:
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ}
وفي سورة الأنفال بغزوة بدر:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} حثّ المؤمنين على القتال وهو عمَل.
وفي مواضع معاكسة يكون الله هو المُستَجيب، تظهر فيها الركيزة الأساسية وهي العمل:
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ..}
كان المدَد الإلهي في ميدان المعركة:
{فَاستَجابَ لَهُم رَبُّهُم أَنّي لا أُضيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنكُم..} {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ..} عندما ج/اهد النبي يوسف "ع" نفسه بالتّعَفّف عن مكرِ النساء.
وثَمَرة الاستجابة بالعمل الصالح والإيمان هي {لَعَلَّهُم يَرشُدونَ} الرشد والهدى للحق. "فاستجابة الله للعباد مرجوة حين يستجيبون له هم ويرشُدون".
إنّ هذا المفهوم جانب يُظهِر أصل وحقيقة الدعاء، وهو أَحَد أسرار تحقيق دعواتنا، ومن خلاله تُنسف بشَكل مباشر البرمجة الموروثة والخاطئة باكتفاء العبد بالدعاء والقعود دون عمَل.
وإذا ما عَكسنا ذلك على الأمة في ظل ما تشهده فيلزم أن يكون الدعاء مُقتَرِن بالعمل الصالح والإيمان لنشهد تَجلّيه، فاللهُ القريب قَد وعَدَ بالإجابة وأوضَحَ شرط التكليف العملي في الدعاء.



