ليس على النساء قتال؟
@batoulkassir
كثيرٌ من النساء عند اشتعال الحرب، يبدين استنكارهن لتقاعس الرجال وتراخيهم، يتأوّهن تحت وطأة العجز، ويتذرّعن بأن لا حول لهن ولا قوة، يجلسن مكتوفات الأيدي مكبلات بشعار "ليس على النساء قتال" وكأنه صكّ إعفاء من كل مهمة، في حين يُنتظر من الرجال أن يخوضوا ميادين النزال. بينما يجهلن أو يتجاهلن أن أعظم الجهاد يبدأ من داخلهن، وأن التكليف لا يُختصر بالبندقية، بل يشمل الفكر، والإعداد، والتربية، وصناعة الوعي، وتكريس اليقين. أوكيف يقاتل رجل لم تربّه امرأة مؤمنة على نصرة الحق وبذل النفس؟ وكيف تقوم أمّةٌ شُغلت نسائها عمدًا بزينة الحياة الدنيا وقشورها عن صناعة الإنسان نصرةً لمشروع الله في الأرض؟
كم خذلتنا تصوراتنا الضيقة عن دور المرأة في ميادين المواجهة الكبرى وأُقصيت عن ساحة التكليف كما لو أنها خارج دائرة الحرب.
فاختُزلت قدرتُها في مشاركة منشورات على مواقع التواصل عن المجازر وصور المظلومين المقهورين، كأن مهمتها تنتهي عند حدود الصبر والتألم. وبهذا التوصيف المجتزأ، تتحول المرأة من ركن بناء إلى عبء نفسي، ومن منبع أمل إلى مصدر للقلق والضعف وقلة الحيلة.
إن أهم أمر يمكن أن نؤمن فيه هو عظمة تكليفنا، فصناعة النصر لا يبدأ لحظة احتدام المعركة، لتفتش فيها المرأة عن ما يجب أن تقوم به كردة فعل طارئة على المجريات دون تحضير مسبق، أو ترى أن أمرها مقتصر على الصبر اللحظي على الظروف الصعبة التي تأتي مع الحرب. على المرأة أن تكون أكبر مفكر استراتيجي، وأهم مستثمر في معادلة الحق، وأعلى جنرال مخطِّط في هذه الحرب، وأعظم ناصر لدين الله، وممهد عامل منتظر لوعده، فتلقي وليدها في يم الجهاد موقنة بأن الله رابطٌ على قلبها، ورادّهُ إليها جنديا مخلصا.
إنما يبدأ النصر بصناعة الإنسان الناصر، المستعد لنصرة الحق والوقوف بوجه الباطل، والمرأة هي المعمل الأوّل الذي تُصاغ فيه معادن الرجال. فهي لا تنتظر اشتعال المعركة لتتحرّك، بل تُحضِّر لها في السكينة، تبني القادة قبل أن يظهروا ممسكين لواء المستضعفين، وتُربي النفوس المؤهَّلة لحمل هم الأمة. هي مَن تعجن اليقين في فطرة الطفل، وتخيط الإقدام في قلب الشاب، وتزرع حبّ البذل في سبيل الله في صدورهم.
وتفهم أن دورها لا يُقاس بشكل آني، بل بالمشروع وجدواه المقرونة برضا الله. ترى الأفق البعيد والصبح القريب، وتستثمر في الغيب بوثوق العارفين، فتجهز أبناءها ليكونوا أعمدة في صرح النور المنتظر. لا ترتقب نصرًا لحظيًا، بل تؤمن أن التكليف مستمرّ، وأن النتيجة قد لا تُجنى في حياتها، لكنها تُمهّد موقنة أنه جزء من تراكمٍ يُثمر في زمنٍ قد لا تشهده، لكنها شريكة في مجده.
فالمرأة في كل خطوة وكل اختيار تقوم به لوجه الله تعالى، لا بد أن تستحضر تكليفها العظيم، وتزن قراراتها بميزان الرسالة، وتدير مواردها الروحية والأخلاقية والوجدانية لخلق فرص الاستمرار، ولتكون أرضًا خصبة تنبت فيها نبتة الجهاد، وتزهر منها ثمار الإيمان والعزة والثبات.
من مجاهدة نفسها والارتقاء بروحها، إلى حُسن اختيارها للشريك الذي يكون لها عونًا على هذا الدرب، لا لماله ولا لمظاهره، بل ليكون شريكًا في بناء بيت تُعقد فيه النطفة على نهج قويم، ويُربّى فيه الوليد ليكون حلقة في عقد النصر المنتظر، ومشروعًا إيمانيًا يواصل المسير. فكل قرار، هو جزء من الخطة الكبرى، خطة التمهيد لوعد الله، وصناعة الإنسان الذي يكون ناصرًا لله ورسوله، وممهدًا لدولة الحق.
صحيح أن المرأة وقت اشتداد الحرب معرضة لبلاءات كثيرة، أعظمها الصبر على فقدان من تحب من الرجال (إخوانها آبائها أبنائها وزوجها)، وهي معنية بالتبيين أيضا، ولنا في معركة كربلاء لعبرة في الأثر العظيم للسيدة زينب (ع) التي ما رأت إلا جميلا رغم شدة المصاب، وجاهدت في حرب السردية ناشرة الحقيقة مبينة الحق واقفة بوجه الظالمين ثابتة أمام التضليل.
لكننا لا بد أن نرجع البصر والبصيرة إلى من مهّد لهذا الصبر العظيم، ومَن أرسى جذور هذا الإيمان العميق واليقين الراسخ بالله تعالى، من عبّد الطريق لانتصار الدم على السيف! إنه الدور الجليل للسيدة خديجة، الذي انطلق من اختيارها للنبي الأكرم، اختيارًا لم يكن عاطفيًا عابرًا، بل مشروعًا إيمانيًا مشتركًا، لبناء بيتٍ تتنزل فيه رحمة الله، يُشاد على محبته ورضاه، يؤذن أن يرفع ويذكر فيه اسمه، قائم على الطاعة والتكليف والتوحيد والتسبيح.
صبرت معه، وصدّقته حين كذّبه الناس، وبذلت مالها ونفسها في سبيل حفظ دعوته ودعم رسالته، ومهّدت الطريق للسيدة فاطمة، التي مضت على ذات النهج، فاختارت الإمام علي امتثالًا لأمر الله، وبنت معه بيت جهاد وطاعة أعمدته الصبر والعطاء، أثاثه المحبة والإصلاح، طوبةً طوبة، يشد أحدهما أزر الآخر، ويعينه على حمل التكليف الإلهي العظيم.
وبهذا خرج من هذا البيت الطاهر سيدا شباب أهل الجنة، وقد تهيّآ في كنفه ليكونا كما شاء الله لهما، وتحضرت فيه زينب، لتبلغ من الجهاد أعظم رتبة، وتُكمل ذات المسير. فلولا تأسيس البنيان على التقوى والتفكير الاستراتيجي العميق، وفهم أن حرب الباطل على أهل الحق طويلة مستمرة، لما صُنعت سفينة النجاة.
الإنسان المؤمن هو إنسان مستيقظ، إنسان واعٍ، وإنسان عملي جدا في قراراته واخياراته، لا ينتظر فرجا جاهزا، لا ينتظر الملائكة لتقوم بتكليفه، بل هو من يساهم في استحضار الفرج، ويعمل على أن يكون له يد في صناعة النصر، ويراكم النقاط كي يؤثر قدر الإمكان في المعادلة على مر الوقت.
فحين نتمعّن في شخصية أم سيدنا الأقدس رضوان الله تعالى عليهما، نجدها تلك المرأة التقية، العارفة، الصابرة، التي ربّت قائدًا هَمُّهُ الإصلاح، ومنهجه الجهاد، وسلاحه التقوى. صلاحها أنجب صالحًا مصلحًا، وصبرها صنع قائدًا قادرا على صنع النصر.
إن هذا لحجة علينا، فلا بد أن يكون لنا مثالا وقدوة، ودعوة لكل ابنة وأم وأخت وزوجة، دعوة لكل فتاة، أن تقوم للجهاد في ميادينها، أن تكون كل أعمالها وخطواتها منذورة في سبيله، من اهتمامها بنفسها صحيا ونفسيا وعقليا وروحيا، ولألا تنتظر المعجزة بل تكون هي المعجزة.
فإن المسيح الذي جاء آية تنير دروب الضالين وتنصر المستضعفين، لم تنفخ معجزته صدفة، بل كان ثمرة مسيرة بدأت منذ أن نذرت امرأة عمران ما في بطنها خالصا لله، فتقبله منها بقبول حسن وإنما يتقبل من المتقين، الذين جاهدوا أنفسهم في سبيله، فهي نذرت نفسها عمليًا قبل أن تنذر مولودها.
وجاءت الاستجابة الإلهية أوسع من التوقع، فقد وُلدت أنثى، والسياق المجتمعي قد لا يرى في الأنثى تحقيقًا للنذر، لكن أمها لم تُبدّل نيتها تبديلا، وثبتت على عهدها، ليكون درسًا عظيما في التسليم المطلق لقضاء الله، والثقة بتقديره، واليقين بأن ما اختاره الله هو الأصلح والأعمق أثرًا، مهما بدت المعطيات في ظاهرها غير مكتملة.
فكانت تلك المولودة هي مريم، الطاهرة التي رزقها الله لإخلاصها بغير حساب، فاختارها لأعظم تكليف أنيط بامرأة، وجعلها وعاءً لمعجزة كبرى، وأمًا لنبي يهدي به الله من يشاء، لتُثبت الحياة من جديد أن المرأة في مشروع السماء ليست هامشا، بل أصلًا في صناعة النور والخلاص، وأنه رغم عدم اجتماع الأسباب المادية، فإن الله فتح لها بابا لتقوم بهذا الدور تأكيدا على أهميته، وأنه ليس مسألة اختيار بشري فقط، بل جزء من النظام الكوني الذي وضعه الله لإنبات خلفاء يرثون أرضه، فإن كان الأعداء يتباهون بمصانع أسلحتهم التي تصدّر الموت، علينا أن نتباهى بمصانع الإنسان التي تحيي الأرض بعد موتها.
انتهى
.
.
.
.
رسائل من الجمهور:
1
كتاب "المرأة علمٌ وعملٌ وجهاد" للسيد علي الخامنئي دام ظله، هو كتيب صغير الحجم (ومتوفّر على شبكة المعارف الإسلامية)، يسهل قراءته، غير أن محتواه غني وعميق يستحق التأمل والاطلاع. يُبرز هذا الكتاب مكانة المرأة ودورها الفاعل في بناء المجتمع، مستندًا في ذلك إلى تعاليم الإسلام.
من كلام السيد القائد: "إنِّ قيمة المرأة هي أن تجعل جو الحياة جنّة ومدرسة وجواً امناً ومنطلقاً للعروج نحو المعارف المعنوية والمنازل المعنوية لها ولزوجها ولأبنائها. وعندما يستدعي الواجب يمكنها أن تؤثّر في مصير البلاد، وتلعب دوراً في تحديد مصير المجتمع. وعندها سيكون دور المرأة كما قلنا سابقاً أكثر من خمسين بالمائة، وهو دور غير كميّ، بل إنّه دور كيفي. تؤدي المرأة دورها، وتدفع معها أولادها وزوجها نحو الطريق المطلوب. وعليه فإن دور المرأة مضاعف".
2
كتاب "جمال المرأة وجلالها" لآية الله الشيخ عبدالله الجوادي الآملي. وهو عبارة عن بحوث وأطروحات متقدّمة وفريدة طرحها حول المرأة لا سيّما في مجال الفلسفة والعرفان. يتحدّث فيها بل ويثبت بالدّليل واستنادًا أيضًا على القرآن الكريم الكمال الذي يمكن أن تصل إليه المرأة وأن تكون أعقل من الرّجل وهي مجهّزة للوصول إلى القرب من الله أسرع لذا أوكل لها صناعة الإنسان. كتاب أنصح بقراءته أوّلًا لأنّه يعتمد على القرآن وعن طريق أهل البيت (ع) وثانيًا لأنّه يستعرض بحثه بطريقةٍ روائيّة متدرّجة ويتناول فيها بعض الشبهات ويناقشها.
وأيضًا خلال خطبة حول عاشوراء عامّ ١٩٧٥ تطرّق فيها الإمام موسى الصّدر عن دور النّساء من خلال السيّدة زينب (ع) كنموذج وسمّى دورها "قيادة الجبهة التاريخيّة وجبهة القيم". وهنا أقتبس منه كلامه: نحن في مجتمعنا بحاجةٍ ملحّة إلى إكمال الرسالة، حتى لا تضعّف المرأة عزيمتنا ولا تضعّف قوّتنا ولا تخلق في نفسنا الوهن والضعف والانهيار. بالعكس نحتاج إلى نساءٍ يقوّين العزائم ويقفن بقوّة. وهذه بحاجة إلى تدريب وتربية كاملة لأنّ مجتمعنا اليوم بحاجةٍ إلى تجنيد. نحن نحتاج إلى أن نقوّي كلّ عزائمنا ونجنِّد كلّ طاقاتنا لكي نتمكّن من الوصول إلى ما كتب الله لنا من العزّة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين. فقرنَ التربية بالتدريب ثمّ التجنيد، فابتدأ بوضع مشاريع تنمويّة وعلميّة وعمليّة، وأسّس مؤسّساتٍ متعدّدة في حقولٍ مختلفة لتمكين المرأة لتمارس أدوارها في المجتمع. وهذا ما لمسناه كنتيجةٍ عمليّة في نساء الجنوب من نساء الزيت المغليّ إلى المجاهدات بين التلال إلى اللواتي قدّمن فلذات أبنائهنّ ونادَين "يرحم البطن لحملته".