صبر أيوب وصبر عمار
لَوْ ضَرَبُونَا بِأَسْيَافِهِم حَتَّى نَبْلُغَ سَعَفَاتِ هَجَر
لَعَلِمْنَا أَنَّا عَلَى الحَقِّ وَهُمْ عَلَى البَاطِل
عمار بن ياسر رضي الله عنه
سعفات هجر، السعفات جمع سعفة، وهي جريدة النخل، وهَجَر إشارة إلى موضع بالبحرين، وخصّت بالذِّكر هنا لبُعْد المسافة.
هذه العبارة قالها عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) في موقعة صفِّين. وكان من أخلص أصحاب الإمام علي عليه السلام أثناء خلافته حتى ارتقى شهـ..يدًا، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذه المقولة تحتاج الأمة أن تستحضرها في هذه الأيام، لأنها تُرينا كيف ينبغي أن يتعامل أهل الحقّ مع العقبات الكُبرى في الطريق.
الطبيعة البشرية تُملي على الإنسان أن يتحرك للذة يطلبها أو ألمٍ يتجنبه. النتيجة المباشرة للعمَل هي التي توجه مساعي الأفراد والمجتمعات، وتُقاس صلاحية اتجاه معيّن بمقياس "النجاح" و "الفشل" في جلب المنفعة. لكن الإسلام أتى بمعيار مختلف تمامًا...
في كتابه الرائع "العبد والمولى"، يقول الشيخ علي رضا بناهيان أنه لكي يحقق الإنسان كمال العبودية لله، فلا بد أن يخرج من معجمه كلمة "النجاح"، ويضع مكانها "القَبُول". الهدف النهائي من كل عمل يعمله المؤمن ليس أن يرى ثمرة سعيه في الدُّنيا، وإلا فإن الإنسان يكون عابدًا لهذا النجاح المتوقع، والله غنيّ عن كل شريك. هناك من يسعى ويجتهد ويأخذ بكُلّ الأسباب، ثم لا يكتب الله له الثمرة التي يريدها، فيغضب على قدره ويثور، وحينئذ ينكشف أنه كان يعبد نفسه، ويراها جديرة بمكانة معيّنة لا بد أن تنالها وتمتاز بها. أما من يعبد الله، فيرجو من الله القَبول، عالمًا أنه لا "يستحق" شيئًا، وإنما كل ما يُعطاه هو بفضل من الله عز وجل.
هذه العبودية نتعلمها من أيوب عليه السلام، الذي ورد في الروايات أنّه ظل يدعو الله ثمانية عشرة عامًا حتى أذن الله بفَرَجه، وحينها وصفه الله بأنه "نِّعْمَ الْعَبْدُ" (ص: 44)، فقد أخذ عليه السلام بالأسباب ودعا، لكنّه لم يستبطئ الإجابة.
ومثل ذلك نجده عند السيدة زينب عليها السلام، عندما استشهد آل بيت النبوة في كربلاء كانت دعوتها "اللهم تقبّل منّا هذا القُربان"، لم تسأل عن نجاح الحركة الحسينية والتضحيات التي بذلت والدماء التي سفكت، وإنّما أن يكتب الله لكل ذلك القبول عنده. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (ع): "كونوا لقَبول العمل أشدَّ همًّا منكم بالعمل". ولا يشك أحد في أن "النجاح" قد تحقق لهذه الحركة المباركة بعد حين.
العبودية بهذا المعنى هي التي جسّدها عمّار بن ياسر، فمعنى كلامه أنه حتى لو هزمنا، وظللنا نهزم حتى وصلوا بنا إلى آخر الأرض، فليس ذلك عندي بمقياس للحق والباطل، لأن اليقين أستمده من الله، والعمل أرجو به وجه الله لا لأجل المكافأة بالنصر أو بغيره.
يحاول بعض المبطلون التلبيس على أنصار المقـ//ومة وإفساد يقينهم، وذلك بأن تجدهم يبالغون في الاحتفاء باليمن مثلًا عندما يضرب عمق العدو، وينشرون أرقام خسائر العدو، وتصريحات قيادته المعترفة بذلك. ولكنّهم وسط ذلك يمرّرون مقولات خبيثة مثل أنه لم يبق داعمٌ لغزة سوى اليمن،
في حين يصمتون عن سائر الجبهات التي تلقت أضرارًا كبيرة وقامت بتضحيات من أجل نفس القضية، لكي يتسرّب للمتابع شعور بأن النصر الماديّ وحده جدير بالاحتفاء، وأن غير ذلك هو جهد قد ذهب أدراج الرياح حتى لا يعود جديرًا بالنقاش. ولو صرّح أهل الباطل بحقيقة نواياهم لما تبعهم من الناس رجلان، ولكن "قَوْلَ الْبَاطِلِ لَهُ حَلَاوَةٌ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِين" كما يقول عمار رضي الله عنه.
لذلك من المهم تقديم مفهوم "القبول" على "النجاح" عند تقييم أي جهد فردي أو جماعي. نعم، التقييم الموضوعي للخسائر والمكاسب مهم، وهو أمرٌ لم تغفل عنه حركات المقـ//ومة، كما يتضح في تعلمها من تجاربها المختلفة وتراكم قوتها رغم العقبات والضربات القاسية التي تلقتها، بل إن القادة يؤكدون أن هدفهم النهائي، بل وواجبهم أمام الله هو التحرير الكامل، كما قال السيد الأمين قدس الله روحه: "تكليفنا أن ننتصر"، وكما أعلن في بدء معركة الإسناد أن الهدف هو أن تخرج غزة منتصرة من هذه المعركة. إذن الحساب بموازين النجاح والفشل جانب أساسي.
ولكن هناك أيضًا جانب أهم، وهو أن هذا العمل، أيًا كانت نتائجه المباشرة، سيؤتي ثمارًا حتمية تنفع النّاس ما دام خالصًا لوجه الله، لكن في التوقيت والكيفية التي ترتضيها مشيئة الله عز وجل، وليس للعبد إلا أن يرضى بما يحكم مولاه.