د. حسن ياسر عمر
لقد جاء أيلول ليعانقك لحظة تألقك يا سيّد حين صبوا عليك ثمانين طنًا من المتفجرات التي انهمرت عليك من زمن أُحد، لنبكي على أسد الله من جديد، ويفرح أكلة القلوب والأكباد بسقوطك، لتعود في فصل التضحية حيث يتسابق المحبون نحو مقام الفداء في مصلاك، ونحتمي بزهرة الألم ونرويها من عصارة الشمس، ونحميها بأرواحنا المبثوثة في ربوع الوطن، حتى تزورنا فنقطفها لك بكامل نضجها، بأعذب أريج نعطر به كل المواسم.
مصابنا بك يا أبا هادي لا يهوّنه دمع ولا رثاء، ولا يواسيه شوق ولا دماء، فرحيلُك عذابنا الأزلي الساكن في الوجدان، خُلقت لنا جرحًا، وخُلقنا لك ملحًا، وهذا الجرح المملح ينتفض لأجلك، من أحشائه نداء الحالمين، يا من عشت أكثر مما كنت تتصور، يا من أعرضت عن كل شيء سوى الشهــ.ــ//دة، دُلنا عليك حتى نعشق الرحيل ونمضي إليه منفردين إلا من الشوق إليك، يا حبيبنا البهي، نحن لا نذرف الدمع عليك، بل نشكو إليك أنفسًا تترقب الإذن بالانتقال من سجل المداد إلى سجل الدماء.
نشتاقك كلما استشـــ ..ــهد المجـــ .ــاهدون، فأين الذي كان ينعاهم؟ وأين الذي كان يعدهم باللحاق بهم؟ نشتاقك حين يصيح المعتقلون وحيدين، فأين الذي كان يؤنسهم؟ وأين الذي كان يبشرهم بالظفر والخلاص؟ نشتاقك في أكناف بيت المقدس، فأين الذي كان يتعبد في رحاب مسجدها المبارك؟ وأين الذي كان يسهر حتى يسمع عويل الصهــ.ـاينة في بنت جبيل وصور وعيتا الشعب؟ نشتاقك اليوم وكل يوم، ونحن نتنفس عبق دمائك التي تفوح في أيلول لتملأ الأكوان، وتزين كل الأوقات، لتظل عطرنا الذي نداعب به البرتقال في حيفا، والعنب في الخليل، ونمسح به وجه المستقبل.
لست غائبًا يا أبــ..ـا هـــ..ـادي وأنت تشاطر الشهــــ...د/ء في صورهم وجنائزهم وذكراهم، وتعود إلى الجرحى لتهنئهم بالعافية، وتقف مع المعتقلين في دعوات الفرج والحرية، لست راحلًا ونحن نضع صورك في أعراس الفرح والشهادة، ونزين بك المخيم الفقير والجدران المثقلة بالمآسي، ونرسمك في كراسات الأطفال ودفاتر الطلاب، لست إلّا أنت، من نضع صورته كرمز لفلسطين، كوجه للنصر، لأنك الوجه الحقيقي وما سواك زيف، كنت مع الحق فكان الحق معك، وكنت مع الله فكان الله لك.
يا سيد المقــ../ومة، في ظل غيابك المؤلم ورحيلك المفجع، بقيت فينا سيدًا لا يملأ مكانك أحد. وإن كان كلُ من يخلفك سفينة نجاة أيضًا، فسفينتك أكبر وفي خوض اللجج أسرع. لقد أبدعت فأدهشت، وحققت فأعجزت، ورحلت فأوجعت، يا من رسمت معالم المعجزة، وكل بوصلة تنحرف عنك فهي مشبوهة، يا من قلت: "إني لا أطمح أن أختم حياتي بالخيانة بل بالشهـــ.../دة"، فهل كذبّناك يا سيدي طرفة عين حتى تثبت لنا كم كنت صادقًا، وأنت الذي طالما قلت صدقًا وما كذبت، فصنعتَ الحلّ وأنجزتَ الوعد ورحلت لترانا نواجه الموت من أجل الحياة.
نجمع الجراح من جديد شوقًا وحنينًا، ونبثها في كل حين على محطات الوجع التي نقف عليها منتظرين إياك، فنحن أبناؤك الذين وُلدوا من جديد في غيابك، رغم ذلك نشبهك ولا نحاكي سواك، نحن أيتامك الذين نفتش عنك في كل يوم، نراك في منامنا وخبز أيامنا، تقطف الشمس من ليالينا وتعيدها كل صباح على نغمة الجراح، نأتيك اليوم بجرحك وفي أعماقه دمع لا ساحل له، فأي جرح ذلك الذي ينزف بلا انقطاع؟ أي جرح ذلك الذي ينمو فينا ويصبغ كل الوجوه بأحمر الشهــ..ادة؟
عفوًا يا سيد الشهـــ ...د/ء ويا شهـــ ...ـيد السادة، لأني لا أجيد النعي إلا فيك ولا أمدحك، لأني أخجل ألا أوفيك حقك، فيا أجمل الشهــــ ...داء وأنبلهم، لك من أرواحنا عهد، ومن دمائنا بيعة، ألّا نبرح ساحة العاشقين، ولا ترضى بغير القتال عادة وسعادة، نحن هنا يا حكاية عشقنا ويا قصة شوقنا، نقتبس منك النقاء في زمن التشويه، لنواصل المسيرة مشحونين بالفكر والوجع، نقرأ وصيتك ونصلي صلاتك من طهارة الدم، ونتلو في كتاب الخلود "والشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ"، ونموت على ما مت عليه ولا نرتد من بعدك كافرين.
قبل أن نفارقك، نقول لك انتظرنا قليلًا يا شهـــ..يد فلسطين ويا غريب الشهـــ.../دة، لن نتأخر عنك ونحن المشتاقون لنلجأ إلى عينيك، ليس سوى الموت الجميل من يحول بيننا وبينك، حتى ترانا ونراك، فأبشر بنا شهـــ ...داء بألوان من دم وتلال من الأشلاء، فرحين بك كما أنت، حين رأيتنا نواجه الموت من أجل الحياة، فتأهب لاستقبالنا.
لن تموت يا أبــ ـ.ـا هــ..ـادي وإنّا على العهد. يا جرح تفتح يا جرح، يا أهلي هاتوا الملح، حتى يبقى حيًّا هذا الجرح.