By the much-frequented House
وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ

ما معنى الحج
موسم الحج هذا العام فرصة للتأمّل في معاني هذه الرحلة المقدسة التي فرضها الله على من استطاع إليها سبيلا، هذه الرحلة قد مرّت بمحطات تاريخية كُبرى رافقت رحلة الإنسان على الأرض، من هبوط آدم عليه السلام، إلى العودة إلى الحنيفية بعد أن درسَت معالمها على يدي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، إلى تطهير البيت من كل دنس للشرك على يدي محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام.

البداية من البيت المعمور
لكن لكي نفهم الحج في معانيه الروحية الفلسفية، نحتاج أن نبدأ رحلتنا من السّماء، من "البيت المعمور"، الذي ورد في الأحاديث الصحيحة أنه بيت في السماء حيالَ الكعبة، قيل في السماء الأولى أو الرابعة أو السابعة، له حرمة بين أهل السماء كحرمة مكة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لم يرونَه من قبل، فيطوفون به ثم يخرجون فلا يعودون إليه أبَدا.

الكون كلّه في عبادة
وصف البيت المعمور بهذا الشكل هو دليلنا إلى أول مبدأ من المبادئ الكُبرى التي تقوم عليها فلسفة العبادة في الإسلام، والتي تتجلى في الحج. هذا المبدأ هو "التناظر بين العوالم". ونعني بذلك أن الله عندما يسنّ عبادة معيّنة على البشر، فإنه يخبرنا في قرآنه أو على لسان نبيّه أننا لسنا وحدنا من نقوم بها، بل قد يشاركنا فيها الملائكة في آفاق السماء، أو الدواب في ظهر الأرض وباطنها. هناك نوعٌ من وحدة الوجود أُقِيم الكَون كلّه على أساسه، ليس بالمعنى الفلسفي الذي يشير إلى أن الموجودات ليس لها وجود حقيقي وليس في الوجود سوى الله، وإنما بمعنى أن كل الموجودات لها قِبْلة واحدة تتوجّه إليها وتسير نحوها، على اختلاف أشكال هذا التوجّه.

نغمة الكون
على سبيل المثال، يخبرنا أمير المؤمنين (ع) أن الله في أول خلق السماوات ملأهُنّ بأصناف من الملائكة يعبدون الله سجودًا وركوعًا، "مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ وَرُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَمُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ"، ويخبرنا القُرآن الكريم في الوقت نفسه أن الجوامد كالشمس والقمر وكذلك الدواب تسجد لله. وبالتالي فعندما يصلّي الإنسان، فإنه لا يغرّد وحيدًا، وإنما ينضم إلى نغمة ينشدها الكون كله، وكان هو وحده "النشاز" الخارج عنها قبل أن يصغي لنداء الله عز وجل.

موقع الإنسان
عندما يتصدق الإنسان، فهو ينضم باختياره إلى ملائكة توزيع الأرزاق. وينضم كذلك إلى الظواهر الطبيعية من رياح ومطر وينابيع تأتي للناس بالخير. بل قد يتفوق على الكُلّ، فيكون كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله "أجود من الريح المُرسلة". ويمكننا في ضوء هذا المعنى أن نفهم معجزة تسخير الجبال للتسبيح مع داود عليه السلام أنها انقلاب للوضع الطبيعي، فيصبح هو السابق لها وهي تتبعه، بدلًا من أن ينضم إليها ككل المُسبّحين.

كلُّ في فلكٍ يسبحون
وكذلك في حالة البيت المعمور، هناك زوار لا ينقطعون عن بيت الله في السماء، ويقابلهم في الأرض المعتمرون والحجاج الذين لا ينقطعون عن بيت الله في الأرض، الحج والعمرة إذا تربط الإنسان بربه، وبنفسه، وبإخوانه المسلمين في الأرض، وبإخوانه الملائكة في السماء، كلُّ في فلكٍ يسبحون.

الالتقاء بين الغيوب
حالة التناظر بين العوالم عندما يستحضرها المؤمن، فإنه يمهِّد روحه كي تدرك أن كل أعماله الصالحة تنطوي على شيءٍ من التقاطع والالتقاء مع الغيوب، عندما يدعو لأخيه، فإن الملائكة تقول "ولك بالمثل"، عندما يرتحل في طلب العلم، فإن الملائكة تحفّه بأجنحتها، عندما يتلو قرآن الفجر، فإن تلاوته تشهدها الملائكة. عندما يقرأ الفاتحة في الصلاة، فإن الله يخبر عنه الملأ الأعلى، وهكذا.

كرامات مألوفة
ويشتد هذا التقاطع ليبلغ ما يشبه الالتحام في مواطن الجهـ//د، فتتنزل الملائكة لتنضم إلى المؤمنين، وقد تقف عن يمينهم ويسارهم (في خطبة الإمام الحسن عليه السلام، أن أبيه كان إذا قاتل قاتل جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وملك الموت بين يديه، عليهم جميعًا السلام). ولا يعود غريبًا أن قتيلهم تشهده الملائكة وتزفّه إلى السماوات، وهذا من أحد أسباب تسمية الشهـ..يد شهـ..يدا. بل يصبح ما نسمعه عن كرامات المجـ//هدين والقادة المقاتلين على طريق القدس أمرًا طبيعيًا كالهواء الذي نتنفسه.

الإنسان.. حامل الأمانة
البيت المعمور إذًا هو رمزٌ للكون الفسيح الذي تعمره الكائنات كلّها بذكر الله في تناغم. والإنسان لأنه حمل الأمانة، فهو الذي مُنِح القدرة على أداء مسؤوليته في "عمارة الأرض"، وجعلها كلّها بيتًا معمورًا لله بإقامة العدل وإماتة الباطل، أو التعامي عن هذه المسؤولية فيعيش في ضنك ويحشر في عَمَى.

تاريخ النشر 30-05-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة