دين السابقين
صحيح أن الإسلام يعتبر النجاة من النّار هو فوز عظيم (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ)، لكنّه في الوقت نفسه جعل الجنّة درجات تتفاوت فيما بينها تفاوُتًا عظيمًا، حتى إن أهل الجنة ينظرون إلى أهل الدرجات العليا "كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق"، أي لشدة التفاوت بينهم كأن بينهم ما بين الأرض ونجوم السماء.
يخبر القرآن أن من يصلون إلى مرتبة المقرّبين العليا هذه هم "السابقون"، فشبّه الطريق إلى الجنّة بميدان للسباق يجري فيها العباد الصالحون كما تجري الخيل. وأمر المؤمنين بالتسابق والتنافس فيما بينهم، فقال: "فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ"، ومدح آل عمران بأنهم "كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ:". وفي الحديث الشريف "أنّه من استوى يوماه فهو مغبون"، أي أن المؤمن مهما كان لا بد أن يكون في تحسّن دائم ولا يرضى أن يقف عند مرتبة من الصلاح، بل يسعى دائمًا إلى الأفضل.
ومجاز السباق نفسه استخدمه أمير المؤمنين عليه السلام إذ قال: "ألا وإن اليوم المضمار، وغدًا السباق"، ويعني أن الحياة الدنيا وقت التجهّز والاستعداد، وفي الآخرة يكون الإنسان كأنه راكب على متن عمله، فمن أحسن عملًا أسرع به هذا العمل إلى الجنّة، ومن لم يحسن الاستعداد أبطأ به عمله إلى المراتب الدنيا، أو ربما كبا به فألقاه في النار. وفي هذا المعنى يُروى عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس منا من كان في مصر فيه مائة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه"، وذلك من شدة تشجيعه على أن يتفرّد أصحابه في صلاحهم وورعهم.
هذا الدين إذن مع تشجيعه على مجمل العمل الصالح وإن قلّ، إلا أنه يريد من المسلم أن يكون متميّزًا متفوقًا، يسخّر كافة قدرته ويركض نفسه في ميادين الكمال كما تجري الخيل في أوان السباق، لا تلتفت يمنة ولا يسرة حتى تصل إلى خط النهاية.
ومن لوازم صورة السِّباق أنه بعد انتهاء الأمد ووصول الجميع لا يُصبح هناك إمكانية للحصول على ترتيب أعلى. لذلك سمي يوم القيامة "يوم الحسرة"، لأن المحسن يتحسر فيه ألا يكون قد ازداد، والمسيء يندم ألا يكون قد نزع عن الذنب. الإسلام إذن يطرح على المؤمن سؤالًا بسيطًا لكنّه يرسم شكل حياته الأبدية:
تكفيكَ النجاة، لكن هل تكفيكَ النجاة؟