في هذه اللحظات، وفي مفارقة رمزية معبّرة، يتزامن توجه الحجاج لرمي الجمرات (المنسك الذي يرمز إلى معاداة الشيطان)، وبين قيام الكيان، وكيل الشيطان الأكبر في المنطقة بقصف الضاحية الجنوبية في لبنان مجددًا، وإحكام الحصار على أهلنا في غزة عشية العيد.
علوّ الشيطان وجنده سنّة سارية في هذه الحياة، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام " فلئن أمر الباطل لقديما فعل"، يعني أن غلبته ليست شيئًا جديدًا. والقرآن في مواضع كثيرة جدًا يقول إن أكثر الناس فاسقون ولا يعقلون ولا يعلمون، أي أن أغلبية البشر وأغلبية القوة المادية دائمًا في صف الشيطان، فكيف يستقيم ذلك مع التأكيد القرآني بأن كيد الشيطان ضعيف؟
يتضح المعنى بالتأمل في رمي الجمرات. يقول شريعتي في كتاب "الحج الفريضة الخامسة" أن هذا المنسك هو تجسيد مجازي لجبهة القتال بين الحق والباطل. الباطل له مكانٌ معلوم، وجنود الحق لا بد أن يتجهوا إليه بأسلحتهم التي هي في حقيقة الأمر حصوات صغيرة، لكنّها تكتسب قدرة جبارة عندما تكون اليد التي تحملها يدًا مؤمنة موقنة بنصر الله. لا بد أيضًا أن يسيروا في جنح الليل استعدادًا للمعركة الفاصلة، وأن يختاروا عددًا معينًا من الحجارة لا يزيد ولا ينقص، كلها توجيهات عسكرية تليق بالمشهد.
ولكن إقبال الجنود على هذه المعركة مختلف، لأنهم يدخلونها وهم يحتفلون بالعيد، وهذا يعني أنه في عرف أمة التوحيد "إنك منتصر بمجرد أن تتخذ قرارك". هذا هو الدرس الذي تعلمه لنا هذه الليلة، أن التكليف ليس أن تشهد القضاء على الشيطان، لكن أن تتوجه للقائه وأن ترمي بحصى ضئيلة الحجم والقوة، لكن من هذا العتاد القليل يأتيك الله بالنصر المؤزر (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ).
في هذه الليلة، يتأكد مرة أخرى أن الطغيان الماديّ الإجراميّ للشيطان وحزبه هو في حقيقة الأمر محاولة لإخفاء الوهن والضعف، وجهد عبثي لستر الخرق في بنيان الباطل الزائل لا محالة. أخبرنا الله أن كيد الشيطان ضعيف، وعلمنا أن مواجهته أيضًا لا تحتاج إلا عتاد ضعيف هو جمرات صِغار يباركها الله تعالى شريطة الانقياد والتسليم له، وأداء التكليف كما أراد.
عيد سعيد على الأمة الإسلامية كلها، فرج الله كرب أهلنا وجعل لهم مخرجا، وتقبل الله من حجاج بيته هذا العام مناسكهم وأعمالهم الصالحة، ورزق المشتاقين للزيارة أمنيتهم في الموسم القادم.