يحاول العوام الذين وقعوا في شِراك مغالطات الخواص من أهل الباطل وتضليلهم أن يبرئوا أنفسهم من المسؤولية زاعمين أنهم ضحايا الظروف، وأنهم لولا تأثير أولئك المستكبرين وقيادتهم الضالة لما تاهوا عن الحق. فيجيبهم المستكبرون أنحن من منعناكم بدعاياتنا وإملاءاتنا؟ بل أنتم من وقعتم في فخ أنفسكم وكنتم مجرمين.
المجرم، كما نستشف من القرآن، هو من قطع صلته بالله سبحانه وتعالى بذنوبه وبفساد قلبه وسوء سريرته، كذلك المجرم في المجتمع هو الذي جرح روابطه مع الآخرين بارتكابه أفعالا مشينة. هذا يبين لنا عدة حقائق جوهرية:
أولا، العدل الإلهي العميق الذي لا يطاله شك أو اعتراض. فلم يحمل الله أولئك المستضعفين وزر المستكبرين، بل إن ذنوبهم هي التي حجبَتْهم عن رؤية الحق وعن الاستجابة للمدد الإلهي والهدى الذي أرسله إلى الناس كافة، واستحبوا طاعة المستكبرين على طاعة الله تعالى، هنا إلقاء الحجة على الناس ومجيئهم الهدى أمر حتمي الحدوث.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا درس عظيم لأصحاب نظرية الأخلاق الفارغة التي تكرس فكرة ساذجة بأن الصلاح يكمن فقط في حسن التعامل مع الناس، وكأن نفسه وعلاقته مع ربه ليست ميدانا للجهاد والإصلاح أيضا، إذ يظن بعضهم أن الأخلاق الطيبة مع الآخرين، ومساعدتهم أو عدم إيذائهم لغيرهم يكفي، بغض النظر عن تقاعسهم في الطاعات وعدم تهذيبهم لأنفسهم، وبصرف النظر عن المنطلق الذي يفعل منه الخير مع الناس ويمتنع منه عن فعل الشر (فإن أي منطلق غير ابتغاء وجه الله ومرضاته هو يصب في دائرة الأنانية واللا أخلاقية)
وهنا تكشف لنا الآية أن علاقتك مع نفسك ومع ربك لها أثر كبير على علاقتك بالواقع في المجتمع وعلى رؤيتك للحق والباطل، فأنت إن لم تصلح سريرتك وتجاهد نفسك وتسيطر على أناك وتتخلص من ذنوبك وتكشف عنك الغشاوة ستصل لمرحلة تختلط عليك الأمور فيها وتعمى بصيرتك عن رؤية الحق، بل قد يمنعك أناك وحبك للدنيا وتعلقك بالملذات من الإذعان والتسليم له عند استيقانه، جحودا وظلما وطغيانا، فلا ذريعة إذا هنا.
وأخيرًا نعي أن المستكبرين والمستضعفين هم منظومة مترابطة، يساند بعضهم بعضا. فلولا سكوت المستضعفين وقبولهم بما يفرضه المستكبرون، لما تمكن هؤلاء من الاستمرار في طغيانهم وزينوا للناس الباطل. وكلاهما أطلق عليهم القرآن لقب "الظالمين" الموقوفين عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، فهم قوم ظالمون بعضهم من بعض. لذلك إننا في زيارة عاشوراء نقول: "لعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به". فالأمة كلها مسؤولة عن موقفها، وإذا كانت قد اتخذت موقفًا مختلفًا، لكانت المجريات قد اختلفت.
- @batoulkassir