كيف يتحدث المستكبر؟ فرعون نموذجًا
ربّما كان الاستكبار هو الخطيئة الكُبرى من المنظور الإسلامي. هو أول ما عُصي به الله، وهو السبب الذي منع إبليس من السجود لآدم (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، وهو الذي دعا بني إسرائيل لتكذيب الأنبياء وقتلهم (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)، ويكرر القرآن كثيرًا أن من تولى قيادة المعركة في وجه الرسل هي طائفة المستكبرين.
وبالنظر إلى الخطاب القرآني، سنجد أن أكثر شخص يتحدث في كتاب الله بعد الرسل (بل أكثر من معظمهم) هو فرعون، وذلك لأنه بضدها تتميز الأشياء، فمعرفة الحق يتطلب معرفة دقيقة وشاملة للباطل وخصائصه ووسائله. بالتالي لعل السبب الأهم في تخليد أقوال فرعون هو إعداد المؤمنين للمعركة الكُبرى التي سيخوضونها مع الاستكبار. ولأن ميدانًا مهمًا لهذه المعركة، إن لم يكن الأهم، هو ميدان الرأي والخطاب، تُصبح كل كلمة قالها هذا المستكبر دليلًا لنا اليوم نفهم منه عقلية العدو وتناقضاته، وفهمه هي أولى خطوات اكتساب الحصانة ضد هيمنته على القلوب والعقول.
يقوم خطاب فرعون كما سجله القرآن الكريم على خمسة أعمدة رئيسية هي:
التأله
التهديد
التحدي
التضليل
التشويه
هذه الأعمدة الخمسة القاسم المشترك بينها جميعًا هو أن المستكبر يحتقر الآخر ولا يرى فيه ندًا يستحق أن يُحاور أو يناقش. ويتضح ذلك في رؤية المستكبر لنفسه أنه في مقام أعلى من سائر البشر (العمود الأول) أو في استخدام منطق القوة العمياء (العمود الثاني) أو في محاورة الآخرين، سواء الخصوم أو الأعوان، بحيل ساذجة تريد إظلام العقل بدلًا من تنويره (العمود الثالث والرابع والخامس).
1- التأله
العمود الأول والأهم لأنه يبيّن نظرة المستكبر إلى نفسه، وهي نظرة فوقية تلغي الآخر وتقسّم العالم إلى سيّد وتابعين. التأله لا يشترط أن يكون دائمًا صريحًا واضحًا كفرعون فيقول (أنا ربكم الأعلى)، وإنما قد تختلف الصياغة.
نظريات التفوق العرقي العنصرية التي تحرك المشروع الصهيو-أمريكي اليوم هي مثال واضح على حالة تأله قادة هذا المشروع. ومثلها ما يروج له الكيان تحت عنوان "اليد الطولى" للكيان، أي قدرته التي يروج له على الوصول لأهدافه بالاغتيال والتدمير أينما كانت هذه الأهداف هو نموذج على ادعاء المستكبر لنفسه صفات القدرة الكلية والعلم الكلي.
2- التهديد
لأن المستكبر يرى نفسه إلهًا، بلسان الحال إن لم يكن بلسان المقال، فإنه غير قادر على الحوار الهادئ والأخذ والرد. المستكبر لنفسه دائمًا (إنا فوقهم قاهرون)، ولذلك فهو عاجز عن الصبر على خصومه والتعامل معهم بحكمة. فقر الخيارات "الدبلوماسية" يقابله ثراء في الخيارات القمعية، من السجن إلى القتل إلى التعذيب الوحشي بتقطيع الأطراف إلى الإبادة الجماعية للأطفال.
هذا الخطاب يطابق أسلوب المستكبرين في الحروب في عصرنا الحديث، فالمفاوضات التي يعقدها دائمًا ما يرافقها حملات قصف مكثفة وتصعيد لمستوى الجرائم لإخضاع الثائرين عليه، بل كما شهدنا في غزة وغيرها من الساحات، أحيانًا ما تكون أخبار اتفاقات الهدنة مجرد ستار لارتكب المزيد من المذابح.
3- التحدي
هذا الأسلوب من أخبث ما يقوم به المستكبر، وفي نفس الوقت من أقل ما يلتفت الناس إليه في خطابه. ونعني بذلك أن المستكبر يتحدى المصلح (الرسول أو الثائر أو المقـ//وم) أن يأتي بأمور خارقة لا يستطيع المستكبر نفسه أن يأتي بها. مثلًا، فرعون لم يأتي بالملائكة ولا بآية خارقة لتؤيد زعمه بأنه إله، لكن عندما أتاه موسى ليقول أنا رسول رب العالمين ولست سوى بشر أبلغ الرسالة، طالبه فرعون بهذه الأمور ليس لأنها ستقنعه لو جاءت، وإنّما الهدف هو أن يكون المصلحون دائمًا في خانة الدفاع، وينشغلون بالرد على التحديات السخيفة بدلًا من أن الانشغال بتبيين الحقائق.
الأمثلة على ذلك كثيرة من خطاب العدو وحلفائه اليوم. في أول شهور الحرب، كانت ألسنة العدو تتساءل "لماذا لم تبني المقـ//ومة ملاجئ لكل سكان غزة، بدلًا من أن تتركهم في مرمى النار؟". وفي أول حرب الإسناد، كانوا يقولون "ما دام الحزب يهدد بصواريخ تبلغ حيفا وما بعد حيفا، لماذا لا يطلقها من أول لحظة ويهاجم فورًا بكل ما لديه؟" بالطبع هذه التحديات غير العقلانية حتى لو تحقّقت لن يغير من موقف المستكبرين شيئًا، فقد أتى موسى بالمعجزات كما طلب فرعون، لأن هدف التحدي هو مجرد التعجيز.
4- التضليل
خطاب المستكبر لا يبنيه الشخص على قمة الهرم وحده، وإنما يحتاج له أعوان يبطشون بالنيابة عنه ويكونون امتدادًا لمشيئته (هامان والجنود في حالة فرعون)، ويحتاج أيضًا من يزيفون الحقائق ويقيمون قصور الأكاذيب التي تقوم عليها مملكته، هم من يخدرون الوعي ويمنعون يقظة الشعوب. وهذا هو دور السحرة. يخبرنا القرآن أن سحرة فرعون كانوا منتشرين في المدائن، بمعنى أن لهم دورًا مستمرًا وسط الناس يقومون به حتى عندما لا تكون هناك ثورة إصلاحية على المستكبر. السحر الذي يرهب الناس لا بد أن يُبَثّ على الدوام لكيلا يبقى هناك فراغ يسمح للحقيقة بالانتشار (ولعل أقرب مقابل معاصر له يتمثل في إعلام التضليل بمختلف أشكاله).
علاقة فرعون بالسحرة هي علاقة عضوية مصلحية، هم يمدونه بالشرعية ويبثون رهبته في قلوب الناس، وهو يمدهم بالأجر والنفوذ الذي يجعلهم أكثر تسلطًا على العقول. حلقة مفرغة لا يكسرها إلا أن يأتي المصلح ومعه الحجة الدامغة الذي تبطل هذا السحر. عصا موسى في عهد الرسول العظيم تتحول في عصر غياب المعجزات والخوارق إلى مسؤولية مستمرة تُسمى جهـ//د التبيين. من يلقي الحجة الدامغة هو وريث من ألقي العصا لتلقف ما يأفكون.
5- التشويه
هذا هو أكثر عمود استند إليه خطاب فرعون في القرآن الكريم، وهو بالفعل أكثر ما يمارسه مستكبرو كل عصر، أي التشويش على الرسالة الثائرة على المستكبر، لا بمناقشتها أو تفنيدها، بل بكيل الاتهامات للرسول الذي أتى بها. لم يأت مصلح في التاريخ بأي رسالة ذات قيمة إلا وتعرض للاغتيال المعنوي. في الأغلب تكون هذه الاتهامات مختلقة بالكامل، بل تكون متناقضة لأن الهدف ليس الحقيقة، وإنما تشكيك الرأي العام بدوافع الثوار "الخفية“.
اتهامات متناقضة وجهت لموسى عليه السلام:
* اتهم بأنه ساحر عليم وأنه مسحور، ولا يمكن أن يكون الاتهامان صحيحين معًا.
* وكذلك اتُّهم بأنه مجنون فاقد للعقل، وفي نفس الوقت أنه كاذب ومدبّر لمؤامرة كُبرى
* واتُّهم بأنه من القوة أنه يريد أن يخرج فرعون وقومه من مصر، وفي نفس الوقت أنه لم يتبعه إلا شرذمة قليلون.
مثل هذه الاتهامات في تناقضها وتهافتها توجه الآن للمقـ//ومة، يُتهمون بأنهم يريدون السلطة وحسب وأنهم أصحاب مصالح براغماتية لا علاقة لها بالعقيدة، وفي نفس الوقت يُتهمون بأنهم أصحاب مشروع طائفي نابع من العقيدة. أسلوب التشويه لا يتبدل وإن اختلفت العصور والوجوه.