Behold, the youths betook themselves to the Cave
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ

بعد استــ.شهـ.اد القائد ي.س رحمه الله، تداول البعض (ربما بحسن نية) أنه لقي الله وهو على الصفوف الأمامية وليس في الأنفاق. وتلقف ذلك بعض الذين في قلوبهم مرض ليلمزوا قادة آخرين (منهم السيد الأمين) قد انتقلوا إلى الرفيق الأعلى في نفق للمـ.قاومة. وهم بذلك إنما يسيؤون إلى آلاف المقاومين الأبطال في كل جبهات القتال الذين استشـ.هـدوا داخل الأنفاق.

هذه النظرة التي ترى في الشجاعة مظهرًا وحيدًا هو أن نخرج إلى العدو جميعًا بصدر مفتوح، دون أن يفكر المقاتلون في حكمة ذلك وفي مسؤوليتهم في ألا تستؤصل حركتهم.

فالنبيّ (ص) عندما أراد أن يخرج من مكة مهاجرًا، لم يخرج في وضح النهار وفي موعد محدد يسهل على قريش مهمة القضاء على الرسالة، وإنما أحكم الخطة ورتب كل عناصرها، بدءًا من تكليف الإمام عليّ (ع) بأن ينام مكانه، وانتهاء باختيار غار ثور كمقر يختفي فيه عن الأنظار، وما يشمل ذلك من استئجار من يخفي آثار الأقدام، ومن يجلب له ولصاحبه الزاد، وليس في ذلك مما يطعن في شجاعته (ص)، فقد كان أشجع الخلق، حتى إن الإمام كان يصفه أثناء احتدام المعارك: "كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وآله فلم يكن منا أقرب إلى العدو منه". فالإقدام أمام العدو له موقعه، والحيلة أيضًا لها موقعها.

وفي غزوة الأحزاب، كانت النظرة الجاهلية القاصرة للشجاعة هي التي استغربت أن يحفر النبي (ص) وأصحابه الخندق وأن يقاتلوا المشركين على غير ما عهدته العرب.

وكانت هذه الغزوة درسًا للمسلمين أن يأخذوا بالأحوط في كل معركة، ويتركوا معطيات الميدان تملي عليهم خطتهم، فتارة يتحصنون، وتارة يهجمون، وتارة يركنون إلى البأس والسيف، وتارة إلى الخداع والمناورة. العبرة كلها بالثبات في سبيل الله، أيًا كان شكل هذا الثبات.

واليوم، نعلم أن رأس حربة العدو هو سلاح طيرانه الذي يفرض أمرًا واقعًا معيّنًا، فما كان من مقـ.ـاومتنا الشجاعة إلا أن نظرت إلى المعطيات الاستراتيجية نظرة ثاقبة، وقررت أن تأوي إلى الكهف، وأن تتخذ من الأرض مستقرًا لها. (واستخدام الكهوف في حروب التحرير أمر ليس جديدًا).

الرمزية لا تخفى هنا، بين محتل يريد أن يقفز علينا من الطائرة دون أن تكون له صلة بالأرض، وبين صاحب حق يحتضن الأرض وتحتضنه، يقاتل من التربة التي هو متجذر فيها، يصبح كأوتاد الجبال التي لولاها لمادت الأرض كلها.

هذه الأنفاق التي تمتد لعشرات وربما لمئات الكيلومترات في فلسطين ولبنان هي معجزة هندسية عسكرية استخباراتية بمعنى الكلمة. حُفرت بالأظافر وراحت فيها صحة خيرة شباب الأمة وأرواحهم، وكانت تنهار عليهم التربة وهم يحفرون بمعدات بدائية لأن أي معدات ثقيلة ستكشفهم. ومن عاش منهم ربما يعاني من آلام. والآن هي تدوّخ العدو وتؤرق مضجعه، كأنه هو الذي يحارب في الظلمات (هناك معنى شاعريّ في أن فوهة النفق تسمى "عينًا"، فمن هذه العيون تبصر المــ.قـاومـ.ـة عدوها من حيث لا يبصرها).

هي إذًا أنفاق العزة والكرامة والشجاعة والبأس الشديد الذي أفرغه الله على قلوب جنده، هي التي غدًا بعد التحرير القريب بإذن الله ستصبح متحفًا ومزارًا للأمم كلها، شاهدة على قوم كمنوا لأعتى جيوش الأرض في قلب أرضنا المقدسة، فأخرجوا الأمة كلها من الظلمات إلى النور، وهيأوا لها من أمرها رشدا.

تاريخ النشر 22-10-2024