من الدروس الكبرى للطوفان أن معركة الرأي لا تقل خطرًا عن المعركة العسكرية. وبالتالي فإن القدرة عن التعبير عن الرأي، بما يتطلبه ذلك من استعدادات وقدرات، تصبح سلاحًا حاسمًا وخطيرًا، ويصبح المثقف عملة مرغوبة لقدرته على ترجيح الكفة الإعلامية واستمالة القلوب والعقول.
وهذا الجانب لا يغفل عنه معسكر الأعداء لحظة، ويستبقون المعارك الكُبرى بفترة طويلة من خلال التعامل مع المثقفين الذين قد يكون لهم دور في قيادة الأمة أو إحداث تغيير، وذلك بطريقة من ثلاثة:
1. التضييق: إما بالحبس أو بالمنع أو بغير ذلك. وهو الأسلوب الأقل تأثيرًا، لأن الممنوع مرغوب، وعامة الناس قد تتعاطف مع من يتعرض للتضييق فيحدث عكس المراد وتزداد أفكاره رواجًا. ولكنّ هذا الأسلوب فعّال إلى حين.
2. الاستمالة: أي ما نصفه بـ "شراء الذمم"، والقصص في ذلك كثيرة عن مثقفين كانوا مستقلين وأحرارًا، ثم عرضت عليهم مناصب أو مبالغ لكي يؤيدوا شخصًا أو جهةً معينة. والمشكلة في ذلك أن من يبيع ذمته يفتضح بسرعة ويفقد جمهوره عندما ينقلب على مبادئه مقابل التطبيل الفجّ.
3. التحييد: وهو أخطر أساليب التعامل مع المثقف، لأنه من ناحية لا يفرِض عليه أن يبيع مبادئه ولا يخسر جمهوره، ومن ناحية أخرى يُتيح له أن يستمر في عمله الثقافي وأن يحقق ربحًا ماديًا من ورائه. كل ما يُطلب من المثقف أن يسكت عن قضية معينة أو يتعامى عن جهة معينة ولا يتوجه إليها بالنقد، وله بعد ذلك أن يفعل ما يشاء.
عندما نشرنا في الستوري قصة "كيّ الوعي" عن الجزيرة وخطرها على قضية المقـ.اومة، أتتنا ردود كثيرة عن أن فلان أو فلان من المحترمين ويظهر على شاشة الجزيرة باستمرار، فكيف إذن تنقدونها؟ ولم يلتفت هؤلاء إلى أن استمالة هؤلاء القامات المحترمة استراتيجية مقصودة لغسل وجه القناة وإخفاء أجندتها، وتحييد هذه الأقلام والألسنة عن نقد موضوعات يُراد ألا يتطرقوا إليها.
التحييد أخطر وسائل التعامل مع المثقف لأنه لا يمنع طاقاته الإبداعية من الانطلاق، وإنما يرسم لها مسارًا محددًا لا تخرج عنه، كالغمامة التي توضع على عيون الخيْل لكي يسهل قيادها. ومع الوقت يصبح المثقف عاجزًا عن رؤية العالم إلا في حدود ما تسمح له به غمامته.