A war of attrition
الانتصار بالنقاط

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وجعل له الشفتين واللسان، فلولا اللسانُ لكان صورةً ممثلة، أو بهيمةً مهملة، وصلى الله على سيدنا محمد، نبي الهدى والحكمة المحكمة وعلى آله الأطهار أولي الأمجادِ المؤثلة والألسنةِ المعسّلة، صلاةً وسلامًا دائمين ما بزغت الشرقُ، وآبت الغزالةُ المغزلة.

فيما يلي مقالةٌ أحسبها داخلة في حيز الحكمة والصواب، وإنما هو رأيّ أُبديه إيمانًا بالتكليف، ومعالم في الطريق لمن أراد الاسترشاد بها، والله الموفق.

القرآن والصراع: الانتصار بالنقاط

لا بُدّ من إدامة النظر وتدبر المعاني في حربنا المستمرة مع

"إسرائيل" حول "الانتصار بالنقاط" وهي بحسب ما سأورِدُه من حُجة بيّنة مبسوطة تتفق فيه الرؤية مع ما ورد في القرآن الكريم من طريقة إدارة الصراع.

يذكر الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء الإفسادين الأول والثاني لبني إسرائيل بقوله: "وَقَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً" ففي الآية الكريمة تأكيدُ وقوع الإفساد من اليهود، وقد حدث الإفساد الأول وانتهى على يد (نبوخذ نصر) ملك بابل، أمّا حديثنا فهو عن الإفساد الثاني الذي نعيشه في يومنا هذا، ويظهر من الآية الكريمة أنً الإفساد ليس فرديًا بل هو جماعيّ مُنظّم ومُسيَّر يشمل الدين والسياسة والأخلاق والاقتصاد، وهو مترافق مع العُلو والاستكبار والمبالغة في القتل والعبث الأخلاقي في العالم.

ثم يقول الله سبحانه وتعالى: "فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً"  والجوس يُفهم منه الاستقصاء والتردد ذهابًا وإيابًا، وهو حاصل من أولي البأس الذي يجوسون كل مكان في الديار، وقد ردّ الله سبحانه وتعالى الكرّة لليهود على أعدائهم بعد زوال إفسادهم الأول وأن دولتهم ستعود بعد المدّ بالبنين والنفير، ومن دلالات قوله: أكثر نفيرًا أيّ أكثر أنصارًا ومؤيدين لهم في العالم، وأكثر إعلانًا للحروب فكيانهم لا يستقيم إلا بحروب مستمرة، وأكثر استنفارًا للدول الكبرى لمساندتهم.

ثم يقول الله سبحانه وتعالى: "إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً" يتحدث الله سبحانه وتعالى عن السنة الإلهية الماضية في الإحسان والإساءة وأن اليهود من يجنون ثمار الإحسان أو الإساءة، لكنهم لم يتّعظوا من العقوبة الأولى بعد الإفساد الأول بل تورطوا في الإفساد الثاني "وعد الآخرة" وهو الثاني والأخير لهم والذي نعيشه حاليًا " لتفسدن في الأرض مرتين" وهم سيجنون ثمرة إفسادهم التي اختاروها بأن يبعث الله عليهم " عبادًا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولًا" فكما سلّط الله عليهم هؤلاء العباد في المرة الأولى، فهم من سيُبددون مُلكهم في المرة الثانية ويُزيلونه من الوجود، وهؤلاء أولي البأس يتحركون برؤيتهم وفق ثلاثة أمور: أولًا: ليسوءوا وجوهكم، ثانيًا: وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، ثالثًا: وليتبروا ما علوا تتبيرًا.

تتجلى رؤية "الانتصار بالنقاط" تماهيًا مع رؤية القرآن الكريم للتعبير عن المسار التصاعديّ والتراكمي طويل الأمد وسياسة الاستنزاف التي ستؤدي إلى إصابة الجسم "الإسرائيلي" القوي بفقر الدم والانهيار، وبدايتُه إساءة وجه الكيان ثم دخول القدس وينتهي بالضربة القاضية بالتتبير والإهلاك.

أولًا: إساءة الوجه تعني الافتضاح والخزي والذل والعار وكشف السوءات، وقد بدأت مرحلة إساءة وجه الكيان من عباد الله أولي البأس منذ انطلاقة المقا٩مة الإسلامية في لبنان عام ١٩٨٢ بعمليات مستمرة وطويلة جعلت العدو لأول مرة في تاريخه يخرج من أرض احتلها بقوة السلاح وتحت النار عام ٢٠٠٠ ثم تبعه الانسحاب من غـزة عام ٢٠٠٥، ثم النصر الإلهيّ في تموز عام ٢٠٠٦ وصمود المقا٩مة في غزة في حروب مستمرة ونجاحها في "إبقاء جذوة النضال مشتعلة"، وإفشال مخططات العدو في إدخال المنطقة في حروب طائفية، وصولًا لطوفان الأقصى في السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣ الذي صفع وجه الكيان وآلمه بشدة وهشّم ردعه وجعله يتآكل، ثم تلاحم جبهات الإسناد وفرضها لوقائع لم تشهدها "إسرائيل" منذ نشأتها، كتهجير سكان الشمال بل إماتته كليًا، أزمات اقتصادية، ضربات عسكرية مؤلمة، إدمانٌ للأكاذيب التي تعبّر عن أزمة وجود حقيقية، الهجرة العكسية لآلاف اليهود، محدودية القدرة البرية، وكم شاهدنا خلال الحرب وجوه قادة الكيان المؤقت القبيحة وهي مِسودة الوجه خلال عمليات محور المقا٩مة المستمرة ليثبتوا أن إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، وأنها لم تعد كما كانت سابقًا، ولا شكّ أن المجازر المستمرة بحق النساء والأطفال حتى يومنا هذا أو عمليات التجويع والحصار تعتبر فضحًا وتعرية لزيف حقوق الإنسان وحضارة الغرب وفسادها الأخلاقي، وإدانة من المحاكم الدولية، وامتعاضًا من شعوب العالم الحر، مما يشكل عزلة دولية وفضحًا للسردية والرواية "الإسرائيـلية" بعد أن كانت " أكثر نفيرًا" وانقطاع حبل الناس عنهم " إلّا بحبل من الله وحبل من الناس" وهذا كله أول إرهاصات إزالة "إسرائيل" من الوجود.

ثانيًا: "وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة" وهي الهدف الثاني بعد إساءة الوجه وهي دخول عباد الله أولي البأس إلى بيت المقدس، أما شكلُ الدخول فهو كقوله تعالى: " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون" فالدخول يمثّل جوسًا خلال الديار واقتحامًا بصولة وهيبة وبطش وعلو، وهذا الدخول لا يتم إلا بمعارك كثيرة مع الكيان تؤدي لتقلّصه وانكماشه.

ثالثًا: الهدف الثالث لعباد الله أولي البأس هو " وليتبروا ما علو تتبيرًا" فالتتبير بمعنى الانهيار الدرامتيكي للكيان وسقوط مؤسسات الدولة العسكرية والاقتصادية، وهذا ما يركّز عليه المستضعفون في ضرباتهم، فالدولة لا تنهار بضرب مبانٍ سكنية وإنما بضرب نقاط حيوية واستراتيجية داخل الكيان تؤدي لزواله ماديًا وتتبير علوه المعنويّ، ولن تكون القوى الاستكبارية حينها إلّا في موقع المتفرّج المتخلّي عن الكيان بعد وقوع أمر الله، ومصير اليهود المحتلين سيكون بعد فقدان الأمن الذي جيء بهم لفيفًا لأجله هو حمل حقائبهم والخروج من فلسطين.

إن الأزمة الوجودية التي تعاني منها "إسرائيل" اليوم تؤكد أن الحق لا بُد أن ينتصر، وأن زوال الكيان ليس مجرد حلم، بل هو وعد إلهي ينتظر التحقق، إن كل ما سبق يشير إلى أن المرحلة القادمة ستكون حاسمة، وأن الفجر قادم لا محالة، فالله يهيّئ لنا النصر بقدرته، ويجعل من إساءة وجه الكيان بدايةً لزواله، أمّا المُضي إلى المراحل التالية فمرهونٌ بالقيادة الحكيمة صاحبة البصيرة الثاقبة التي تقرر حسب الظروف والمعطيات وتختار الوقت المناسب للتنفيذ " ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين"

تاريخ النشر 21-11-2024