في مثل هذه الأيام، كان أمير المؤمنين عليه السلام يرقد في فراشه وقد ضربه ابن ملجم بالسيف المسموم، فسارع بتوصية ولده وأهل بيته قبل اللحاق بالرفيق الأعلى.
في هذه الوصايا الأخيرة، يظهر معدن الإمام وتتضح فروسيّته التي عاش بها طيلة حياته وعامل بها حتى ألد أعدائه، وحِلْمه الذي توزن به الجِبال.
على فراش الموت، يقول الإمام للحسن والحسين عليهم جميعًا السلام: "أطعموه وأسقوه، أحسنوا إساره، فإن عشت فأنا ولي دمي، أعفو إن شئت وإن شئت استقدت، وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا"
هكذا كان عليه السلام، إذا كان الموضوع يمسّ شرع الله وحدوده، فلا تسامح ولا تهاون، فالقصاص واجب ولا يملك العفو فيه. أما إن عاش، فالنفس العظيمة التي بين جنبيه تُقدِّم العفو وتأبى الانتقام للنَّفس، سيرًا على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله الذي كان "لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها"، ولكن إذا انتهك شيء من محارِم الله، لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له. وأين في التاريخ كله نجد عفوًا بسمو ورفعة عفوه صلى الله عليه وسلم عن قُريش بعد عشرين عامًا من المؤامرات عليه وعلى دعوته، ولم ينتقم منهم ولو بكلمة؟
بالعفو عامل أمير المؤمنين الناكثين والقاسطين والمارقين، مع أن حقه كإمام أن يقتص منهم.
في الجمل عفا عن نفر من خصومه الذين آذوا شيعته وحرضوا عليه وصافحوا وجوه أبنائه بالسيوف، وأبى أن يقتاد منهم، ونادى مناديه: "ألا لا يجهز على جريح ولا يتبع مولٍ ولا يطعن في وجه مدبر، ومن ألقى السلاح فهو آمن".
وفي صفّين احتل أهل الشام شريعة من الفرات ومنعوا جيش الإمام من الشرب منه حتى يموت عطشًا، فلمّا غلبهم عليها وأجلاهم من مواقعهم، لم يبادلهم عدوانًا بعدوان، وإنما أفسح لهم ليشربوا.
وكفّره أحد الخوارج وهو قائم على المنبر في الكوفة، فوثب القوم عليه، فبادر الإمام بقوله: "رويدا إنما هو سب بسب أو عفو عن ذنب"، وعفا عنه.
ككل خصال الإمام عليه السلام، كان العفو نابع من نفسه الشريفة التي ينتهي إليها كل الفضائل، ولا عجب فهو نفس رسول الله صلوات الله عليه وآله، إذ كان يقول: "العفو تاج المكارم". وكان عفوه نابع أيضًا من مراعاة الله في كل خاطرة، إذ كان يوصي فيقول: "إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَدُوِّكَ فَاجْعَلِ الْعَفْوَ عَنْهُ شُكْراً لِلْقُدْرَةِ عَلَيْهِ"، فجعل حسن الخُلُق عبادة لله وحمدًا له.
لمثل هذه الفضيلة وغيرها قال الواقدي فيه: "أن عليا عليه السلام كان من معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالعصا لموسى، وإحياء الموتى لعيسى عليه السلام".
سلام الله عليك يا أبا الحسن، وعلى كل من سار على هديِك إلى يوم القيامة.