صُنّاع الاستسلام
من طبيعة المعارك الكُبرى في الصراع بين الحق والباطل أنها تسير في جولات متدرّجة في الشدة حتى تأتي لحظة الحسم، كما كان لنبيّنا عليه الصلاة والسلام بدر وأحد وخيبر والأحزاب ثم الفتح، كذلك كان لموسى عليه السلام جولات، بدءًا من المواجهة الأولى مع فرعون، ثم المواجهة مع السّحرة، ثم أخذ فرعون وقومه بالابتلاءات المختلفة، ثم المواجهة الأخيرة وشقّ البحر وإغراق الظالمين.
اللافت للنظر أنه في هذه الجولات، لا يكاد صوت بني إسرائيل يظهر في الأحداث ما قبل النجاة من فرعون إلا في مواضع قليلة للغاية، نذكر منها هذه الآية بالمنشور لاتصالها بواقعنا اليوم.
بعد أن انتصر موسى عليه السلام على السحرة وآمنوا بما أتى به من الله، توعّد فرعون بني إسرائيل:
"قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ". هذا طرف لا يرضى إلا بالخضوع التام والذبح والاستعباد، ومنطقه هو منطق القوّة وحده.
ومن ناحية أُخرى، خاطب موسى قومه بالبشارة بوراثة الأرض، وعدًا قريبًا من عند الله يحتاج الصبر والتقوى: "قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". لم يتوعّدهم ولم يهددهم كما فعل فرعون.
كان جواب بني إسرائيل لنبي الله: "قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا". لم يوجهوا سهام نقدهم وسخطهم نحو من يضطهدهم، نحو الجبابرة الذين يتلاعبون بمصائرهم، وإنما نحو موسى عليه السلام. وتأمل المبني للمجهول "أوذينا" الذي يوحي بارتعادهم خوفًا حتى إنهم لا ينطقون باسم المتسبب في أذاهم. هذه النظرة السطحية إلى ظاهر الأمور دون حقيقتها هي السمة المميزة للمجتمعات فاقدة البصيرة، وما أشبه ذلك بما نسمعه اليوم من اتهامات بأن "المقـ//ومة هي السبب" وما شاكل ذلك من لوم ظاهر وباطن، دون الالتفات إلى الاستكبار والطغيان الذي هو أصل المشكلة.
هذه الفئة التي يتوعّدها كل فرعون في كل زمان ومكان عندها خلل في الموازين، لأنها ترى أن النصر يتحقق في حالة توقّف الأذى. لو رفع فرعون سوطه عنّا، بأي شكل وبأي ثمن، نكون انتصرنا، فيسارعون لذلك إلى استجداء السلام الذليل، وقبول الخضوع التام لكي يتوقف الألم، ولو إلى حين.
أما المعادلة الإلهية، فتقول أنّ الأذى هو أقصى ما يستطيعه المستكبرون "لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى"، وما يُنتظر من المؤمنين هو الصَّبْر وعدم خشية أحد إلا الله (أي التقوى الصادقة)، أو كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "واستشعروا الصّبْر فإنّه أدعى إلى النَّصْر".
عندما يحدث ذلك فقط يمنّ الله على عباده.
بالصبر نُصِر المؤمنون مع موسى عليه السلام (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا). وبالصبر نُصِر المؤمنون مع محمد صلى الله عليه وسلّم (بلَىٰ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).
أمّا من يتركون الظالم ويصيحون في المقاوم: "أوذينا"، فليسوا سوى صنّاع للاستسلام، هؤلاء هم الذين قالوا للحسين (ع): "انزل على حكم بني عمك، فإنهم لن يروك إلا ما تحب".
ولا يُقال لهم وللفراعين من ورائهم إلا رد أبي عبد الله: "لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد".