Surely We revealed it on a blessed night
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ

زمانٌ ليس كالزمان

في العشر الأواخر من شهر رمضان، يرتقب المسلمون أجلّ ليالي العام في المكانة والثواب، ليلة القَدْر التي أُنزل فيها القُرآن والتي هي خيرٌ من ألف شهر.

اختلفت الأقوال في سبب تسمية ليلة القدر. فيُقال أنها سميت بذلك من "التَقْدير"، لأن الله تعالى قدَّر فيها إنزال القُرآن أو لأنه يُقدِّر فيها أمور السنة. أو سُميت بذلك من علو القَدْر، لعظمها أو لعظم ثواب الطاعات فيها، أو من القَدْر بمعنى الضيق، لأن فيها تتنزّل الملائكة إلى الأرض فتضيق بهم، وقيل غير ذلك.

وتختلف الروايات في تحديدها، ومتى يجب التماسها بالضبط، أفي العشر الأواخر كلها، أم في الليالي الوترية منها فقط، أم في ليلة محددة، في أقوال كثيرة جدًا. والسؤال الذي نريد التفكير فيه في هذا المنشور هو لماذا أخبرنا القُرآن بليلة القدْر أصلًا، وما الحكمة منها؟

أو لنطرح السؤال بشكل أعمّ: ما سرّ تأكيد الإسلام على أن لبعض الأوقات أفضلية على بعض؟ رمضان هو أفضل الشهور. وليلة القدر هي أفضل ليالي السنة، والليالي العشر على اختلاف تأويلاتها، سواء أفي رمضان أم المحرم أم ذي الحجة لها فضل كبير. ويوم الجمعة هو أفضل أيام الأسبوع. وحتى على مستوى اليوم الواحد، الثلث الأخير من الليل حتى طلوع الفجر له مكانة كُبرى، وقرآن الفجر خاصة تشهده الملائكة.

يُقسّم الإسلام الزّمن إلى بُعدين مختلفين:

البعد الأول هو الزمان المادي الذي يرتبط بالخصائص الفيزيائية لهذا العالم، ويتولّد عن حركة الأجسام فيه. زمنٌ بالنسبة لسكّان الأرض ينقسم إلى ثوان ودقائق وساعات وأيام إلخ، كل وحدة منه ليست لها أفضلية على الأخرى. هذا الزّمن بسيره الدؤوب هو الذي يمضي بالإنسان إلى أجله، هو الذي يُهرم جسده ويسعى فيه بالفناء، وهو الذي عناه الشاعر بقوله:

تَفُتُّ فُؤادَكَ الأَيّامُ فَتّا... وَتَنحِتُ جِسمَكَ الساعاتُ نَحتا
وَتَدعوكَ المَنونُ دُعاءَ صِدقٍ... أَلا يا صاحِ أَنتَ أُريدُ أَنتا

أما البُعد الثاني، فهو الزمان الغيبيّ، الزمان الذي تتفاضل فيه الساعات والأيام والشهور بحسب اتصالها باللامتناهي، كما اختار الله أماكن على الأرض وشرّفها وأعلى مقامها، ليس لامتيازها بأي عنصر من العناصر المادية كطيب الجو أو خصب التربة. فمكة المكرّمة التي هي وادٍ جدبٍ قاسٍ في وسط الصحراء، صارت باصطفاء الله خير مدن الأرض ومهوى أفئدة ما لا يحصى من الخلق. فكذلك يصطفي الله أوقاتًا يضاعف فيها البركة.

هذا البُعد الغيبيّ يرتقي بالنّفس المؤمنة من وجهين.

الوجه الأول: تذكُّر أن بركة الله لا تُنال إلا بالعمل

عندَما يقول لنا الله ورسوله إن هذا الوقت أو ذاك هو وقت مُبارك، فإن ذلك لا يعني أن هذه البرَكة سينالها كل النّاس. وإنّما ينبغي أن يمُد الإنسان يدَه ويجتهد في هذه الأوقات كي يحصل على الأجر المضاعف. فلا يستوي من عمل الصالحات من صلاة وتلاوة وتضرع وصدقة في ليلة القَدْر، ومن لم يعمل أي شيء فيها (ببساطة، حاصل ضرب أي رقم في صفر سيظل صفرًا).

وفي ذلك يقول الإمام عليه السلام: "إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما، ويأخذان منك فخذ منهما". البعد الغيبي للزمن يذكّر الإنسان أن الإيمان في حدّ ذاته ليس له اعتبار دون العمل الصالح، بل هو أدعى للحسرة أن تكون القطوف دانية إلى هذا الحد ثم يعود الإنسان خالي الوِفاض، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "رَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ علَيهِ رمضانُ ثمَّ انسلخَ قبلَ أن يُغفَرَ لَهُ" أي خاب وخسِر من ضيّع هذه الفرصة السانحة.

الوجه الثاني: الرجاء في استدراك ما فات من العمر

لأن الزمن الماديّ محدود بطبيعته، وأعمارنا كذلك محدودها ونطاقها معروف، فإن كثيرٌ منا أن العمر يضيع ولم يحققوا طموحاتهم بعد. كثيرًا ما تجد الشباب يتساءلون، أضعت عشريناتي، أضعت ثلاثيناتي، ولا زلت عند نقطة الصفر، هل يمكنني تحقيق ما أتمنى؟ هذا الشعور بالأسى على ما فات هو شعور مشترك لدى البشر جميعًا بدرجات متفاوتة. لكن الزمن الغيبيّ له حسابات مختلفة. هل ضيّعت عشرين عامًا أو ثلاثين عامًا في معصية الله أو مُقصِّرًا في طاعته؟ يعِدُك الله بأن الوقت لم يفُت (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ)، فليلة واحِدة مباركة تقضيها في الطاعات تعوّضك عن تقصير ثمانين عامًا، والله يضاعِف لمن يشاء. اتصال الإنسان بالبعد الغيبيّ للزمن يجعله لا يستحسر على ما فات، فهو لا يعدم فرصة قريبة يُعوّض فيها، كأنه لم يضيّع لحظة واحدة.

ختام

هذان الوجهان يجتمعان معًا ليقولا إن الزمان المادي الذي هو عبارة عن وحدات متطابقة موزّعة توزيعًا رياضيًا دقيقًا قد يتضاعف ويطول ويمتد، وتصبح ليلة الواحدة بألف شهر، تحيا فيها قلوب بعد موتها، ويسبق فيها من كانوا قد قصّروا، ويرتقي من سبقت لهم الحُسنى، ما دام الإنسان مستعدًا للتوجه نحو الله عز وجَلّ، خالق الزمن، ومقدّر الأوقات والأقوات، ومانح الأجر والثواب.

الاجتهاد في هذه الليالي بأنواع الطاعات التماسًا لأجر للّيلة المباركة نُسمِّيه "إحياء ليلة القدر" مجازًا، لكن المعنى الحقيقي الذي يختفي خلف هذا المجاز هو أننا لسنا نحن الذين نحييها.. وإنما هي التي تحيينا.

تاريخ النشر 26-03-2025
اقتباسات أخرى ذات صلة