وأنتم الأعلَوْن
يعيش الكثير من أبناء هذا الجيل المقـ.ـاوم أزمةً وجوديةً تتجلى في صدمةٍ عميقة أعقبت فقدا كبيرا، حيث تتنازع العقول بين الشك واليقين، وتضطرب القلوب بين الصبر والجزع، فتتدفق الأسئلة من كل جانب: هل كانت المقـ.اومة خيارًا صائبًا؟ هل يستحق الأمر كل هذه التضحيات؟ وهل كان علينا أن نقتحم غمار حرب الإسناد بكل أعبائها؟ لقد خسرنا قادتنا، وانفرط شيءٌ من عقد قوتنا، واهتزت أركان تماسكنا ومعها قوة الردع، ولا يزال القتل مستمرًا، فهل غُبِنّا بالثمن ووُعدنا بالنصر غرورا؟ أم أننا أرهقنا أنفسنا في معركةٍ لا جدوى منها؟
لكن البصيرة النافذة تدرك أنَّ هذه التساؤلات ليست إلا امتدادًا للامتحان الإلهي، فكم من جيلٍ عايش الانتصارات وظن أن طريقه معبَّد بالفوز دون عناء، حتى إذا ابتُلي بالخسارة وزلزل زلزالا شديدا، كُشف عن حقيقة يقينه، فإن كان إيمانه راسخًا استقام، وإن كان هشًّا تهاوى. وهذا الفارق الجوهري بين من يمضي بثباتٍ في المسيرة الإلهية، وبين من ينكص على عقبيه وينقض غزله عند أول اختبارٍ عسير. فالمقـ.اومة لم تكن يومًا مشروعًا بشريًا خاضعًا لحسابات المصلحة الدنيوية فقط، بل كانت امتدادًا لوعدٍ إلهيّ خالد: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم).
وإذ بنا في خضم هذه الصدمة، نجد العدو يخوض حربًا إعلامية شرسة تهدف إلى زعزعة الثقة بين القيادة والقاعدة، مستخدمًا أدوات التضليل والخداع، فيبث الشك في عقول شبابنا، ويجتهد في إقناع بيئتنا أن المقـ.اومة قد استنزفت نفسها بلا طائل. يطلق ادعاءات جنونية ويعمل على إثبات "صدقه" بتنفيذها، ثم يسعى لأن يلقي في أماني قادتنا، ليحول بين أملهم وسعيهم إليها وبين تطبيقها، مكرّسًا اليأس والإحباط. وأخبث هذه الأساليب، تسويق فكرة أن "الاستسلام أكثر جدوى من القتال، وأنَّ السلاح خطر على حامله لا حماية، بل يمكن للأمان أن يتحقق من خلال التنازل والتطبيع". لكنّ مشكلة العدو ليست مع كفاحك فقط، بل مع وجودك نفسه.
ما لا يدركه البعض هو أنَّ الإسناد للمظلومين لم يكن مجرد موقفٍ أخلاقي، ولا خيارًا استراتيجيًا فحسب، بل كان في ذاته طوق نجاة، نجاةً ليست مقتصرة على الجزاء الأخروي، بل حتى في المقاييس المادية الدنيوية. فما جرى علينا كان مخططا لنا منذ زمن بمكر وخبث، وما فعلناه أننا دخلنا الحرب بتوقيتنا، لا بتوقيت العدو، وبهذا أفشلنا بلطف الله ورحمته جزءًا كبيرًا من مكرهم وأهدافهم وأربكنا حساباتهم.
لسنا هنا بصدد إثبات صوابية خيار القادة قبل ارتحالهم، فقد كانت بصيرتهم النافذة ترى النصر رأي العين. ولعل من روّاد هذا الفقه الإيماني العميق، الشـ.هيد القائد والعبد القادر، الذي فعّل السنن الإلهية في واقع المقـ.ـاومة تفعيلًا عمليًا، مستلهمًا من هدي القرآن الكريم والسنة النبوية استراتيجية القتـ.ال وجدواها. لذا، فإن الوقوف عند أهداف العدو وتشخيص الواقع كما هو، بكل أبعاده الإيمانية والعقائدية والعملية، ضرورةٌ لفهم معركة الوعي وتحديد مسارات المواجهة بدقةٍ وبصيرة.
إنَّ هذه الأزمة التي يعيشها بعض شباب المقـ.اومة اليوم لها أسبابٌ متشابكة، تجمع بين النفسي والعقائدي والتاريخي، وكلها تتفاعل لتصنع هذا التذبذب في العزيمة، ومن هنا ينبغي تفكيك هذه الأسباب لنفهم أبعادها:
يرجع البعض إلى أن الخسارات المتتالية للقادة والقوة العسكرية أدت إلى هذا الشعور بالانكسار النفسي والضعف لدى الناس، لكن المسلمين في غزوة أحد تزعزعوا رغم كون رسول الله بينهم، فالبعض يظن أن وجود القائد كافٍ لتحقيق الثبات بلا إيمان، فإذا وقف للاختبار، زلت قدمه واعتراه الاضطراب والشك. هنا، يدرك المؤمن الواعي ويهيء نفسه لحقيقة أنَّ الجهاد ليس مجرد انتصارات، بل هو مسيرةٌ طويلة من الابتلاءات والتمحيص، والنصر المؤكد بعد إخلاص وعمل وصبر.
أما في الجانب العقائدي، فإن بعض النفوس لم تستوعب بعد فلسفة الابتلاء الإلهي، فظنت تأخر النصر أو تعاظم التضحيات دليلا على الخذلان أو عدم صوابية الخيارات، بينما هي في حقيقتها عملية تمحيصٍ إلهي، يكشف الله بها معادن الرجال، ويميز بها الخبيث من الطيب. إنّ الإيمان الذي لم يُختبر لا يمكن الركون إليه، والمسيرة التي لم تُغربل لا تصل إلى مقصدها الصحيح بنصر عزيز.
كما تكمن العقدة التاريخية في واقع هذا الجيل الذي لم يكن شاهدًا على ظروف ولادة المقـ.اومة، فعاش انتصاراتها دون أن يعايش بداياتها لسنوات من المجـ.اهدة السرية أو العمل في بيئاتٍ ضاغطة. فكما شهد بعض الناس الإسلام مع النبي (ص) في عزّه دون أن يعايشوا آلام ولادته ونموه، حيث لم يصبروا على القهر في مكة، ولا اضطروا إلى الهجرة من أرضهم، بل لم يعرفوا إلا أمجادًا بدرية وخيبرية غرّتهم بقوتهم بعد تسديد إلهيّ في مواطن كثيرة، فكان الجواب يوم حُنين عند تزعزعهم أن الله الذي نصركم على قلّتكم هو الذي ينصركم في كثرتكم وليست كثرتكم هي التي تغنيكم عن الهزائم.
وهكذا كان هذا الجيل ابن الانتصارات دون أن يعاني المخاض العسير الذي سبقها، ولذلك، إنَّ من يعيد قراءة المسيرة بتجردٍ وعمق، يدرك أن هذه المقـ.اومة لم يُنزل عليها الله مائدة من ذخيرة وأسلحة من السماء لتحارب بها دون عمل وبذل، بل نشأت من قلب حرب أهلية، من بين ركام ودمار ووسط اجتياح اسراىيلي وفوضى سياسية واجتماعية، واستطاعت رغم قلة عددها وضعف إمكانياتها وبشدة إيمانها وصبرها أن تحرر الأرض، وتهزم الكيان الغاصب، وتفرض معادلاتٍ جديدة لم يكن يتخيلها العدو.
فكيف لنا اليوم أن نشكك في ما ثبت يقينًا بالتجربة وألا نكمل مسيرا أثبت جدواه عمليا؟
إنَّ الحقائق لا تتبدل، والكيان الغاصب لم يُطرد من أي أرضٍ إلا بالقوة، والانتصارات لم تتحقق يومًا إلا عبر التضحيات، وكما أن الطين لا يتصلب إلا بالنار، كذلك الأوطان لا يُصاغ عزّها إلا بجمر الدماء والعطاء.
لقد أعدَّ شباب المقاومة في بدايتها ما استطاعوا، راكموا الإنجازات حتى صار العدو في موقعٍ لا يمكنه فيه تحقيق أي جدوى من بقائه، وهذه هي المعادلة الحاسمة في أي صراع، فحين تصبح كلفة الاحتلال أعلى من كلفة الانسحاب، فإن النصر يصبح قاب قوسين أو أدنى.
وقد يرى البعض أن تغير موازين القوى في المنطقة، أو تبدل اتجاهات بعض الدول ومنها لبنان يشكل تهديدًا إضافيًا، لكنَّ المؤمن الحقيقي لا يبصر في ذلك إلا ألطافًا إلهية جلية وإن كانت خفية، ولا يدرك حكمتها إلا من ذاق حلاوة اليقين في تدبير الله والتوكل عليه. فالله يهيئ الأسباب، وكثيرٌ مما يبدو لنا ضيقًا ليس إلا محفزًا لعمل صادق وتمهيدًا لفتحٍ قريب.
ليست هذه الأزمة سوى مرحلة أخرى من مراحل الطريق، وهو الطريق ذاته الذي سار عليه الأولون، والذي سيسير عليه عباد الله أولو البأس، والدرب الذي لا يعرفه إلا من صدق السير فيه بأشواكه وغنائم عزّه:
(وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)
- @batoulkassir