الشَّلَل النَفْسِيّ :داء الأمة العضال
كيف يمكن توصيف الحالة التي تجعل الحسين عليه السلام يقيم الحجة على جيش أعدائه في كربلاء بأفصح لهجة وأقوم منطق، فيُقال له: "ما ندري ما تقول، ولكن اِنزل على حكم بني عمّك"؟
ما الذي يجعل أمة محمد، صلوات الله عليه وآله، بعد جيل واحد فقط، تفقد بوصلتها، فتعرف أن حفيد النبي أجدر بالاتباع وأنه أعلمهم وأفقههم وأصلحهم، ثم تشكك في خروجه وتنصحه بالقعود، أو تتفرج وهو وآل بيته يجري عليهم ما جرى في كربلاء، أو حتى تناصر عدوّه زاعمين زورًا أنه "قُتِل بشرع جده"! هل كان ذلك لغياب نور النبوة؟ ألم يكن بقية هذا النور هو الذي يدعوهم للنصرة؟
الإجابة هي أن الأمة كانت قد أصيبت بـ"الشلل النفسي". الشلل النفسي هو انتكاس يصيب الأمة عندما تفقد بوصلتها فترى الباطل حقًا والحق باطلًا، ويستشري هذا الداء في جسدها عندما يستحكم التناقض بين النور الذي أودعه الله داخل الإنسان وأرسله إليه، وبين خضوع هذا الإنسان بمحض إرادته إلى ظلمات الضلالة التي يحيطه بها الظلمة وأعوانهم.
هذه الحالة الخطيرة كان رسول اللّٰه قد حذّر الأمّة منها إذا ما تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن التخلي عن هذه الفريضة يغرق الإنسان في أعماق سحيقة من الظلمات، فيفقد أولًا التمييز بين الجيد والسيء، ثم يضل أكثر فيبتغي السيء وينبذ الجيد، ففي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال:
كيف بكم إذا فسدت نساؤكم وفسق شبابكم ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟
فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟
فقال: نعم، وشرٍّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟
فقيل له: يا رسول الله، ويكون ذلك؟
قال: نعم، وشرًّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟
قالوا: يا رسول الله، وإن ذلك لكائن؟
قال: نعم
نفس الشلل النفسي نراه اليوم يهيمن على أمتنا، حيث نجدها في هذه الحالة المؤسفة من التخبط، يؤيدون المقـ//ومة ويلعنون داعميها بالمال والسلاح، ينددون بالتدخل الأمريكي في المنطقة، ثم يقفون ضد ضرب قواعده. يرون كذب العدو ليلًا نهارًا ثم ينشرون أنباءه دون أدنى تحقيق. يعرفون أن المليارات تُدفع لتضليلهم واختراق وعيهم، ثم يهرولون إلى القنوات التي تفعل ذلك. شلل تام في الإرادة وعمى تام في الأبصار. هذه هي النتيجة الطبيعية للنكوص عن اتباع النّور، تفقد الأمة بصيرتها، وتستلب إرادتها، وتصبح فريسة سهلة لكل عدو يترصدها.
هذا الشلل يشخصه القرآن بأنه نتيجة تخاذل الإنسان عن واجبه عندما يرى النور والظلام يتصارعان. الإعراض عن النور، أو حتى المشاهدة السلبية للمعركة تعني السقوط.
عندما يحدث ذلك، عندما يؤثر الانسان السلامة ويخذل الحق، فإنه عقوبته هي أن يفقد قدرته على الإبصار والتمييز، فلا يعود يفرق بين النور والظلمات. هذه الحالة شبهها القرآن بالعمى، وهو قد يكون في البداية اختيارًا بالتولي والإعراض عن الحق، والتكذيب والمكابرة، لكنه في نهاية المطاف يصبح عقابًا إلهيًا ولعنة مستحقة، ويقول تعالى في هؤلاء: (أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ).
من أجل ذلك، كان قيام الحسين .. من أجل العودة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من أجل أن تفهم الأمة أنه ما لم تتخذ موقفًا واضحًا في الصراع بين النور والظلمات، ما لم يكن لها وجود في ميدان هذه المعركة الوجودية، فإنها ستظل محكومة بأن تذوي بداء الشلل الذي لم يزل ينخر في جسد الأمة حتى يومنا هذا.
***
(هذا المقال، وتطبيق مصطلح "الشلل النفسي" على حال الأمة في زمن الحسين عليه السلام يعتمد بالأساس على أحد فصول كتاب "الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة، المجلد الأول، تأليف علي الشاوي)